المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو السيف ، من غير فرق بين كتابي وغيره.
[٣٠] لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الّذين يغارون لربهم ولدينهم ، على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وهذه المقالة ، وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ، ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة ، التي تجرأوا فيها على الله ، وتنقصوا عظمته وجلاله. وقد قيل : إن سبب ادعائهم في «عزيز» أنه ابن الله ، أنه لما تسلط الملوك على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حملة التوراة ، وجدوا عزيزا بعد ذلك ، حافظا لها أو أكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة. (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ) عيسى ابن مريم (ابْنُ اللهِ) ، قال الله تعالى : (ذلِكَ) القول الذي قالوه (قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا. ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل ، يحجزه ، عما يريد من الكلام. ولهذا قال : (يُضاهِؤُنَ) أي : يشابهون في قولهم هذا (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي : قول المشركين الّذين يقولون : «الملائكة بنات الله» تشابهت أقوالهم في البطلان. (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : كيف يصرفون عن الحقّ ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين.
[٣١] وهذا ـ وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ، أن تتفق على قول ـ يدل على بطلانه ، أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه ـ فإن لذلك سببا وهو أنهم : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) وهم علماؤهم (وَرُهْبانَهُمْ) أي : العبّاد المتجردين للعبادة. (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يحلّون لهم ما حرم الله ، فيحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه ، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها. وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبّادهم ، ويعظمونهم ، ويتخذون قبورهم أوثانا ، تعبد من دون الله ، وتقصد بالذبائح ، والدعاء والاستغاثة. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) اتخذوه إلها من دون الله ، والحال أنهم خالفوا في ذلك ، أمر الله لهم على ألسنة رسله ، قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيخلصون له العبادة والطاعة ، ويخصونه بالمحبة والدعاء ، فنبذوا أمر الله ، وأشركوا به ، ما لم ينزل به سلطانا. (سُبْحانَهُ) وتعالى (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزه وتقدس ، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم ، فإنهم ينتقصونه في ذلك ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله ، والله تعالى العالي في أوصافه وأفعاله ، عن كل ما نسب إليه ، مما ينافي كماله المقدس.
[٣٢] فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه ، ولا برهان لما أصّلوه ، وإنّما هو مجرد قول قالوه ، وافتراء افتروه أخبر أنهم (يُرِيدُونَ) بهذا (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ). ونور الله : دينه ، الذي أرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب. وسماه الله نورا ، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل ، والأديان الباطلة. فإنه علم بالحق ، وعمل بالحق ، وما عداه ، فإنه بضده. فهؤلاء اليهود والنصارى ، ومن ضاهاهم من المشركين ، يريدون أن يطفئوا نور الله ، بمجرد أقوالهم ، التي ليس عليها دليل أصلا. (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) لأنه النور الباهر ، الذي لا يمكن لجميع الخلق ، لو اجتمعوا على إطفائه ، أن يطفئوه ، والذي أنزله ، جميع نواصي العباد بيده. وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء ، ولهذا قال : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله ، فإن سعيهم لا يضر الحقّ شيئا.
[٣٣] ثمّ بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) الذي هو العلم النافع (وَدِينِ الْحَقِ) الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث الله به محمدا صلىاللهعليهوسلم مشتملا على بيان الحقّ من الباطل ، في أسماء الله ، وأوصافه ، وأفعاله ، وفي أحكامه وأخباره ، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب ، والأرواح ،