ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك. وقوله : (إِنْ شاءَ) تعليق للإغناء بالمشيئة ، لأن الغنى في الدنيا ، ليس من لوازم الإيمان ، ولا يدل على محبة الله ، فلهذا علقه الله بالمشيئة ، فإن الله يعطي الدنيا ، من يحب. ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان والدين ، إلا من يحب. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : علمه واسع ، يعلم من يليق به الغنى ، ومن لا يليق به ، ويضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها. وتدل الآية الكريمة ، وهي قوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أن المشركين بعد ما كانوا هم الملوك والرؤساء بالبيت ، ثمّ صار بعد الفتح ، الحكم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، مع إقامتهم في البيت ، ومكة المكرمة ، ثمّ نزلت هذه الآية. ولما مات النبي صلىاللهعليهوسلم ، أمر أن يجلوا من الحجاز ، فلا يبقى فيها دينان. وكل هذا لأجل بعد كل كافر عن المسجد الحرام ، فيدخل في قوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).
[٢٩] هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فلا يتبعون شرعه ، في تحريم المحرمات ، (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي : لا يدينون بالدين الصحيح ، وإن زعموا أنهم على دين ، فإنه دين ، غير الحقّ ، لأنه إما دين مبدل ، وهو الذي لم يشرعه أصلا ، وإما دين منسوخ قد شرعه الله ، ثمّ غيره بشريعة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز. فأمره بقتال هؤلاء ، وحثّ على ذلك ، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه ، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس ، بسبب أنهم أهل كتاب. وعين ذلك القتال (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي : المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم ، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم ، بين أظهر المسلمين ، يؤخذ منهم كل عام ، كلّ على حسب حاله ، من غني ، وفقير ، ومتوسط ، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره ، من أمراء المؤمنين. وقوله : (عَنْ يَدٍ) أي : حتى يبذلوها في حال ذلهم ، وعدم اقتدارهم ، ويعطوها بأيديهم ، فلا يرسلون بها خادما ، ولا غيره ، بل لا تقبل إلا من أيديهم ، (وَهُمْ صاغِرُونَ). فإذا كانوا بهذه الحال ، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية ، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم ، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم ، واستسلموا للشروط التي أجراها المسلمون ، بما ينفي عزهم وتكبرهم ، ويوجب ذلهم وصغارهم ، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم. وإلا ، بأن لم يفوا ، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، لم يجز إقرارهم بالجزية ، بل يقاتلون حتى يسلموا. واستدل بهذه الآية ، الجمهور الّذين يقولون : لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، لأن الله لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم. وأما غيرهم ، فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا. وألحق بأهل الكتاب في أخذ الجزية ، وإقرارهم في ديار المسلمين ، المجوس. فإن النبي صلىاللهعليهوسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ثمّ أخذها أمير المؤمنين عمر ، من الفرس المجوس. وقيل : إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار ، من أهل الكتاب وغيرهم ، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين ، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم ، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع ، لا مفهوما له. ويدل على هذا ، أن المجوس أخذت منهم الجزية ، وليسوا أهل كتاب ، ولأنه قد تواتر عن