[١٨١] وقوله : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١) أي : ومن جملة من خلقنا ، أمة فاضلة ، كاملة في نفسها ، مكملة لغيرها ، يهدون أنفسهم وغيرهم ، بالحق ، فيعلمون الحقّ ، ويعملون به ، ويعلمونه ، ويدعون إليه وإلى العمل به. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) بين الناس في أحكامهم ، إذا حكموا في الأموال ، والدماء والحقوق ، والمقالات ، وغير ذلك. وهؤلاء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وهم الّذين أنعم الله عليهم بالإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر. وهم الصديقون الّذين مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة ، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله ، وعلو منزلته. فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.
[١٨٢ ـ ١٨٣] أي : والّذين كذبوا بآيات الله ، الدالة على صحة ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم من الهدى فردوها ولم يقبلوها. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بأن الله يدر لهم الأرزاق. (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم ، حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ، ولا يعاقبون ، فيزدادوا كفرا وطغيانا ، وشرا إلى شرهم. وبذلك تزيد عقوبتهم ، ويتضاعف عذابهم ، فيضرون أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولهذا قال : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي : قوي بليغ.
[١٨٤] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ) صلىاللهعليهوسلم (مِنْ جِنَّةٍ) أي : أولم يعملوا أفكارهم ، وينظروا : هل في صاحبهم ، الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء ، هل هو مجنون. فلينظروا في أخلاقه وهديه ، وعدله وصفاته ، وينظروا في ما دعا إليه ، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها ، ولا من الأخلاق إلا أتمها ، ولا من العقل والرأي ، إلا ما فاق به العالمين ، ولا يدعو إلا لكل خير ، ولا ينهى إلا عن كل شر. أفبهذا يا أولي الألباب جنّة؟ أم هو الإمام العظيم ، والناصح المبين ، والماجد الكريم ، والرؤوف الرحيم؟ ولهذا قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب ، ويحصل لهم الثواب.
[١٨٥ ـ ١٨٦] (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم إذا نظروا إليها ، وجدوها أدلة على توحيد ربها ، وعلى ما له من صفات الكمال. (وَ) كذلك لينظروا إلى جميع (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فإن جميع أجزاء العالم ، تدل أعظم دلالة ، على الله وقدرته ، وحكمته ، وسعة رحمته ، وإحسانه ، ونفوذ مشيئته ، وغير ذلك من صفاته العظيمة ، الدالة على تفرده بالخلق ، والتدبير ، الموجبة لأن يكون هو المعبود المحمود ، المسبح الموحد المحبوب. وقوله : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي : لينظروا في خصوص حالهم ، ولينظروا لأنفسهم قبل أن يقترب أجلهم ، ويفجؤهم الموت ، وهم في غفلة معرضون ، فلا يتمكنون حينئذ من استدراك الفارط. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الكتاب الجليل ، فأي حديث يؤمنون به؟ أبكتب الكذب والضلال؟ أم بحديث كل مفتر دجال؟. ولكن الضال لا حيلة فيه ، ولا سبيل إلى هدايته ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦) أي : يتحيرون ويترددون ، فلا يخرجون من طغيانهم ، ولا يهتدون إلى حق.