وطلبا للمغفرة على الحقيقة. فلو كان ذلك ، لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم ـ إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى ـ يأخذونه. فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، واستبدلوا الذي هو أدنى ، بالذي هو خير. قال الله تعالى في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، فما بالهم يقولون عليه غير الحقّ ، اتباعا لأهوائهم ، وميلا مع مطامعهم. (وَ) الحال أنهم قد (دَرَسُوا ما فِيهِ) فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أتوا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ما حرّم الله عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم ، بغير ما أنزل الله ، وغير ذلك من أنواع المحرمات. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره ، فخاصية العقل ، النظر للعواقب. وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟ وإنّما العقلاء حقيقة ، من وصفهم الله بقوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) أي : يتمسكون به علما وعملا ، فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار التي علمها أشرف العلوم. ويعملون بما فيها من الأوامر ، التي هي قرة العيون ، وسرور القلوب ، وأفراح الأرواح ، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات ، إقامة الصلاة ، ظاهرا وباطنا ، ولهذا خصها بالذكر لفضلها ، وشرفها ، وكونها ميزان الإيمان ، وإقامتها ، داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا ، قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) في أقوالهم وأعمالهم ، ونياتهم ، مصلحين ، لأنفسهم ، ولغيرهم. وهذه الآية ، وما أشبهها ، دلّت على أن الله بعث رسله ، عليهم الصلاة والسّلام ، بالصلاح لا بالفساد ، وبالمنافع لا بالمضار ، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين ، فكل من كان أصلح ، كان أقرب إلى اتباعهم.
[١٧١ ـ ١٧٤] ثمّ قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) حين امتنعوا من قبول ما في التوراة. فألزمهم الله العمل ونتق فوق رؤوسهم الجبل ، فصار فوقهم (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) وقيل لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) دراسة ومباحثة ، واتصافا بالعمل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إذا فعلتم ذلك. يقول تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي : أخرج من أصلابهم ، ذريتهم ، وجعلهم يتناسلون ، ويتوالدون ، قرنا بعد قرن. (وَ) حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي : قررهم ، بإثبات ربوبيته ، بما أودعه في فطرهم ، من الإقرار ، بأنه ربهم وخالقهم ، ومليكهم. (قالُوا : بَلى) قد أقررنا بذلك ، فإن الله تعالى ، فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد ، فهو مفطور على ذلك ، ولكن الفطرة قد تغير ، وتبدل ، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة ، ولهذا (قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ). أي : إنّما امتحناكم ، حتى أقررتم ، بما تقرر عندكم ، من أن الله تعالى ، ربكم ،