وانبسطوا برزقه ، وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب والقحط. ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون ، وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم ، في شكر من أسدى النعيم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له. ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار ، والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ) أي : من ذلك النبات الخضر. (حَبًّا مُتَراكِباً) بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع. وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول. وإشارة أيضا ، إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار. (وَمِنَ النَّخْلِ) أخرج الله (مِنْ طَلْعِها) وهو الكفرى ، والوعاء ، قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء (قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها. (وَ) أخرج تعالى بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ). فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عمّ جميع الأشجار والنباتات. وقوله : (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره. ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره. والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ، ويقتاتون ، ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : (انْظُرُوا) نظر فكر واعتبار (إِلى ثَمَرِهِ) أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل ، إذا أثمر. (وَيَنْعِهِ) أي : انظروا إليه ، وقت اطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه. فإن في ذلك عبرا ، وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده وكمال اقتداره وعنايته بعباده. ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر ، وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود. ولهذا قيّد تعالى الانتفاع بالآيات ، بالمؤمنين فقال : (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها : التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ، ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا.
[١٠٠] يخبر تعالى : أنه ـ مع إحسانه لعباده ، وتعرفه إليهم ، بآياته البينات ، وحججه الواضحات ـ أن المشركين به ، من قريش وغيرهم ، جعلوا له شركاء ، يدعونهم ، ويعبدونهم ، من الجن ، والملائكة ، الّذين هم خلق من خلق الله ، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء. فجعلوها شركاء ، لمن له الخلق والأمر ، وهو المنعم بسائر أصناف النّعم ، الدافع لجميع النقم. وكذلك «خرق المشركون» أي : ائتفكوا ، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله ، بنين وبنات ، بغير علم منهم. ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم ، وافترى عليه أشنع النقص ، الذي يجب تنزيه الله عنه؟ ولهذا نزه نفسه عمّا افتراه عليه المشركون فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) فإنه تعالى ، الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآفة ، وعيب.
[١٠١] (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ، ومتقن صنعتهما ، على غير مثال سبق ، بأحسن خلق ، ونظام ، وبهاء. لا تقترح عقول أولي الألباب مثله ، وليس له في خلقهما مشارك. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي : كيف يكون لله الولد ، وهو الإله السيد الصمد ، الذي لا صاحبة له ، أي : لا زوجة له ، وهو الغني عن مخلوقاته ، وكلها فقيرة إليه ، مضطرة في جميع أحوالها إليه. والولد لا بد أن يكون من جنس والده. والله خالق كل شيء وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه. ولما ذكر عموم خلقه للأشياء ، ذكر إحاطة علمه بها فقال : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وفي ذكر العلم بعد الخلق ، إشارة إلى الدليل العقلي ، على ثبوت علمه ، وهو هذه المخلوقات ، وما اشتملت عليه ، من النظام التام ، والخلق الباهر. فإن في ذلك ، دلالة على سعة علم الخالق ، وكمال