تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه. وكفارة أيضا عن العافي ، فإنه كما عفا عمن جنى عليه ، أو عمن يتعلق به ـ فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس ، كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق. فهو ظلم أكبر ، عند استحلاله ، وعظيمة كبيرة عند فعله ، غير مستحل له.
[٤٦] أي : وأتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين ، الذين يحكمون بالتوراة ، بعبدنا ورسولنا ، عيسى ابن مريم ، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة ، فهو شاهد لموسى ، ولما جاء به من التوراة ، بالحق والصدق ، ومؤيد لدعوته ، وحاكم بشريعته ، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية. وقد يكون عيسى عليهالسلام أخف في بعض الأحكام ، كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) الكتاب العظيم ، المتمم للتوراة. (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) يهدي إلى الصراط المستقيم ، ويبين الحق من الباطل. (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) بتثبيتها والشهادة لها ، والموافقة. (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم الذين ينتفعون بالهدى ، ويتعظون بالمواعظ ، ويرتدعون عمّا لا يليق.
[٤٧] (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي : يلزمهم التقيد بكتابهم ، ولا يجوز لهم العدول عنه. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).
[٤٨] يقول تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها. (بِالْحَقِ) أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) ، لأنه شهد للكتب السالفة ، ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجودها مصداقا لخبرها. (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية ، والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين. وهو الكتاب الذي فيه الحكم ، والحكمة ، والأحكام ، الذي عرضت عليه الكتب السابقة. فما شهد له بالصدق ، فهو المقبول ، وما شهد له بالرد ، فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل. وإلا ، فلو كان من عند الله ، لم يخالفه. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الحكم الشرعي ، الذي أنزله الله عليك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق ، بدلا عمّا جاءك من الحق ، فتستبدل الذي هو أدنى ، بالذي هو خير. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي : سبيلا وسنّة. وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل ، في وقت شرعتها. وأما الأصول الكبار ، التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها ولا متقدمها. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) فيختبركم ، وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم. فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي : بادروا إليها ، وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره ، مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين : المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة ، حين يجيء وقتها ، ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها ، كاملة على الوجه المأمور به. ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها ، في أول وقتها. وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزي في الصلاة وغيرها من العبادات ، من الأمور الواجبة. بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها ، لتتم وتكتمل ، ويحصل بها السبق. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ، ليوم لا ريب فيه. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من الشرائع والأعمال. فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل ، والعمل