علمكم ما لم تكونوا تعلمون. ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته ، أنه
يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته ، التوبة عليه. ويخذل من اقتضت حكمته وعدله ، من
لا يصلح للتوبة.
[٢٧] وقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ) أي : توبة تلم شعثكم ، وتجمع متفرقكم ، وتقرّب بعيدكم.
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) أي : يميلون معها حيث مالت ، ويقدمونها على ما فيه رضا
محبوبهم ، ويعبدون أهواءهم ، من أصناف الكفرة والعاصين ، المقدمين لأهوائهم على
طاعة ربهم. فهؤلاء يريدون (أَنْ تَمِيلُوا
مَيْلاً عَظِيماً) أي : تنحرفوا عن الصراط المستقيم ، إلى صراط المغضوب
عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن ، إلى طاعة الشيطان ، وعن
التزام حدود من السعادة كلها ، في امتثال أوامره ، إلى من الشقاوة كلها في اتباعه.
فإذا عرفتم أن الله تعالى ، يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم ، وسعادتكم ، وأن هؤلاء
المتبعين لشهواتهم ، يأمرونكم ، بما فيه غاية الخسار والشقاء ، فاختاروا لأنفسكم
أولى الداعيين ، وتخيروا أحسن الطريقتين.
[٢٨] (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي : بسهولة ما أمركم به ، ونهاكم عنه. ثم مع حصول
المشقة في بعض الشرائع ، أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم ، كالميتة والدم ونحوهما ،
للمضطر ، وكتزوج الأمة للحر ، بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة ، وإحسانه
الشامل ، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان ، من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة
وضعف العزيمة ، وضعف الإيمان ، وضعف الصبر. فناسب ذلك ، أن يخفف الله عنه ، ما يضعف
عنه ، وما لا يطيقه إيمانه ، وصبره ، وقوته.
[٢٩] ينهى
تعالى ، عباده المؤمنين ، أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل. وهذا يشمل أكلها
بالغصوب ، والسرقات ، وأخذها بالقمار ، والمكاسب الرديئة. بل لعله يدخل في ذلك ،
أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل ، وليس من الحق. ثم إنه
ـ لما حرم أكلها بالباطل ـ أباح لهم أكلها بالتجارات ، والمكاسب الخالية من
الموانع ، المشتملة على الشروط ، من التراضي وغيره. (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يقتل الإنسان نفسه.
ويدخل في ذلك ، الإلقاء بالنفس إلى التهلكة ، وفعل الأخطار المفضية إلى التلف
والهلاك. (إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً) ومن رحمته ، أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن
إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ، ما رتبه من الحدود. وتأمل هذا الإيجاز والجمع ،
في قوله : (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كيف شمل أموال غيرك ، ومال نفسك ، وقتل نفسك ، وقتل
غيرك ، بعبارة أخصر من قوله : «لا يأكل بعضكم مال بعض» و «لا يقتل بعضكم بعضا» مع
قصور هذه العبارة على مال الغير ، ونفس الغير فقط. مع أن إضافة الأموال والأنفس
إلى عموم المؤمنين ، فيه دلالة على أن المؤمنين ، في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم
، ومصالحهم ، كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم ، على مصالحهم الدينية
والدنيوية. ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل ، التي فيها غاية الضرر عليهم ، على
الأكل ، ومن أخذ ماله ـ أباح لهم ، ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ،
وأنواع الحرف والإجارات فقال : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي : فإنها مباحة لكم. وشرط التراضي ـ مع كونها تجارة ـ
لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا ، لأن الربا ليس من التجارة ، بل
مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ، ويأتي به اختيارا. ومن
تمام الرضا ، أن يكون المعقود عليه ، معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك ، لا يتصور
الرضا مقدورا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه ، شبيه ببيع القمار. فبيع الغرر
بجميع أنواعه ، خال من الرضا ، فلا ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود ، بما دل
عليها ، من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا ، فبأي طريق حصل الرضا ، انعقد به
العقد. ثم ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً) ومن رحمته ، أن عصم دماءكم وأموالكم ، وصانها ، ونهاكم
عن انتهاكها.
[٣٠] ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : أكل الأموال بالباطل ، وقتل النفوس (عُدْواناً وَظُلْماً) أي : لا جهلا