ذلك. وذلك (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) قياما بدين الله ، وتحصيلا لمصالحهم الّتي لا يمكن حصرها وعدها. وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع ، وهو القيام بالقسط ، وإن اختلفت صور العدل ، بحسب الأزمنة والأحوال. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) من آلات الحرب ، كالسلاح والدروع وغير ذلك. (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وهو : ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف ، والأواني ، وآلات الحرث ، حتى إنه قلّ أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) ، أي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد ، فيتبين من ينصره ، وينصر رسله في حالة الغيب ، الّتي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة ، الّتي لا فائدة بوجود الإيمان فيها ، لأنه حينئذ يكون ضروريا واضطراريا. (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، أي : لا يعجزه شيء ، ولا يفوته هارب. ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد ، الذي منه الآلات القوية ، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه ، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه ، ليعلم من ينصره بالغيب. وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد ، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه ، ويعلي كلمته : بالكتاب ، الذي فيه الحجة والبرهان ، والسيف الناصر بإذن الله ، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط ، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله ، وكمال شريعته الّتي شرعها على ألسنة رسله.
[٢٦] ولما ذكر نبوة الأنبياء عموما ، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، أي : الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهماالسلام. وكذلك الكتب كلها ، نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين. (فَمِنْهُمْ) ، أي : ممن أرسلنا إليهم الرسل (مُهْتَدٍ) بدعوتهم ، منقاد لأمرهم ، ومسترشد بهداهم. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، أي : خارجون عن طاعة الله ، وطاعة رسله كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣).
[٢٧] (ثُمَّ قَفَّيْنا) ، أي : أتبعنا (عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، خصّ الله عيسى عليهالسلام ؛ لأن السياق مع النصارى ، الّذين يزعمون اتباع عيسى. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) الذي هو من كتب الله الفاضلة (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢). ولهذا كان النصارى ، ألين من غيرهم قلوبا ، حين كانوا على شريعة عيسى عليهالسلام. (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ، والرهبانية : العبادة ، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ، ووظفوها على أنفسهم ، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها. بل هم الّذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قصدهم بذلك رضا الله ، ومع ذلك (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ، أي : ما قاموا بها ، ولا أدوا حقوقها ، فقصروا من وجهين : من جهة ابتداعهم ، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. ومنهم من هو