لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه. وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع ، ويدخر لصاحبه ، ويصحب العبد على الأبد ، ولهذا قال تعالى : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) ، أي : حال الآخرة ، لا يخلو من هذين الأمرين. إما العذاب الشديد في نار جهنم ، وأغلالها وسلاسلها وأهوالها لمن كانت الدنيا هي غايته ، ومنتهى مطلبه ، فتجرأ على معاصي الله ، وكذب بآيات الله ، وكفر بأنعم الله. وإما مغفرة من الله للسيئات ، وإزالة العقوبات ، ورضوان من الله ، يحل من أحله عليه دار الرضوان لمن عرف الدنيا ، وسعى للآخرة سعيها. فهذا كله ، مما يدعو إلى الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ولهذا قال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ، أي : إلا متاع يتمتع به ، وينتفع به ، ويستدفع به الحاجات ، لا يغتر به ، ويطمئن إليه ، إلا أهل العقول الضعيفة الّذين يغرهم بالله الغرور.
[٢١] ثمّ أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، والإيمان بالله ورسله ، يدخل فيه أصول الدين وفروعه ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن ثواب الله بالأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، من أعظم منته على عباده وفضله. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، الذي لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه.
[٢٢] ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) ، وهذا شامل لعموم المصائب الّتي تصيب الخلق ، من خير وشر ، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها. وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ، ولكنه على الله يسير.
[٢٣] وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر. فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم ، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله ، فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنّما أدركوه بفضل الله ومنّه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ، ودفع النقم ، ولهذا قال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) ، أي : متكبر فظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى : و (إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ).
[٢٤] (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ، أي : يجمعون بين الأمرين الذميمين ، اللذين كلّ منهما كاف في الشر : البخل وهو منع الحقوق الواجبة ، ويأمرون الناس بذلك ، فلم يكفهم بخلهم ، حتى أمروا الناس بذلك ، وحثّوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم ، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها. (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ، فلا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئا. (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الذي غناه من لوازم ذاته ، الذي له ملك السماوات والأرض ، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم. الحميد الذي له كلّ اسم حسن ، ووصف كامل ، وفعل جميل ، يستحق أن يحمد عليه ، ويثنى ويعظم عليه.
[٢٥] يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب ، الّتي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم ، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. (وَالْمِيزانَ) وهو العدل في الأقوال والأفعال. والدين الذي جاءت به الرسل ، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات والقصاص والحدود والمواريث ، وغير