ثمّ أخذ في الكلام عن المتعارضين وعن أنواعه وطريقة العلاج ، على ما بيّن في الأصول (١).
وهكذا فصّل الكلام في ذلك في كتابه الذي وضعه لتمهيد أصول الفقه (٢).
وهذا المنهج الذي انتهجه الشيخ هو المنهج القويم لتقييم الروايات ووزنها على المقياس العقلاني الرشيد.
فقد جعل المعيار لوزن اعتبار الأخبار هي مراتب قوّتها في إيجاب العلم بمؤدّاها ، فما كانت متواترة كان سبيلها وجوب العمل بها من غير انتظار شيء ينضاف إليها.
وأمّا غير المتواتر من الأخبار فما كان منه مقترنا بقرائن توجب العلم بصّحة مؤدّاه ، فهذا كالمتواتر ، كان سبيله العمل بموجبه ، لأنّ ما يوجب العلم يستلزمه وجوب العمل بلا ريب.
وهذا أدقّ نكتة تنبّه لها شيخنا الأقدم ، في أنّ أخبار الآحاد المحتفّة بقرائن صادقة ، هي كالمتواترات الموجبة للعلم! فليس هناك تعبّد بظنّ وإنّما هو عمل بعلم.
وهذا هو الذي مشى عليه سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ بشأن حجّية أخبار الآحاد (الجامعة لشرائط الحجّية) في مختلف أبواب الشريعة ، وليس خاصّا بأبواب التكاليف.
حيث اعتبر من مؤدّى خبر الثقة الأمين علما وليس تعبّدا بظنّ (٣).
والمهمّ في كلام الشيخ ، تعداده للقرائن الحافّة الموجبة للعلم ، وقد جعل أوّلها وأولاها هي : مطابقة دلائل العقل الحكيمة. وثانيها : موافقة دلائل الكتاب ، بأنحاء الدلائل الجليّة منها والخفيّة (ظاهر الكتاب وباطنه) والتي يعلم تفسيرها وتأويلها الراسخون في العلم.
وثالثها : موافقة السنّة المقطوع بها ، إمّا صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما.
ورابعها : المرافقة مع إجماع المسلمين أو إجماع علماء الطائفة ، وإجماعهم حجّة بلا ريب.
والعمدة : أنّه رحمهالله جعل من مؤدّى تلكم الأخبار المحتفّة بإحدى هذه القرائن ، علما يوجب العمل به. وأنّ خبرا هذا شأنه خارج عن حيّز أخبار الآحاد وداخل في باب المعلوم الذي يلزم الأخذ به.
وممّا يلفت النظر في كلامه قدسسره أنّه جعل خبر الواحد ـ المنقول في كتب الأصحاب ـ إذا لم يعارضه خبر آخر ، داخلا في باب الإجماع على نقله ، ويلزم العمل به ما لم تعارضه الفتاوى!
وهذا هو القول الفصل بشأن اعتبار أخبار الآحاد ، في جميع مجالات الدين ، أصولا وفروعا ،
__________________
(١) الاستبصار ١ : ٣ ـ ٤.
(٢) راجع : عدّة الأصول ١ : ٣٣٦ و ٣٦٧ ـ ٣٧٢.
(٣) نقلنا كلامه في الفصل السابق.