والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث : «لكلّ آية ظهر وبطن» ، فلا يصدّنّك عن تلقّي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله ، فليس ذلك بإحالة ، وإنّما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلّا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك ، بل يقرّون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما أفهمهم (١).
ظاهرة تداعي المعاني
كانت السوانح الفكريّة التي تدعى واردات القلوب ، يمكن تفسيرها بظاهرة تداعي المعاني (الشيء يذكر بالشيء) (٢) فقد ينسبق إلى أذهان أصحاب المعالي لطائف أفكار وظرائف أنظار ، ولا منشأ لها سوى تلاوة آيات قرعت أسماعهم ، وإذا بدقائق هي رقائق الفكر سنحت لهم بالمناسبة ، ومن غير أن تكون مدلولة ذاتيّة للكلام ما عدى الفحوى العامّ.
فكم من طرائف فكر وظرائف عبر تسنح أذهان ذوى الاعتبار ، بمجرّد أن واجهوا حادثة أو شاهدوا واقعة أوقفتهم عند حدّها وألزمتهم حجّتها فأخذوا منها دروسا وعبرا. وهكذا عند استماع تلاوة أو قراءة آية ذكّرتهم مكارم أخلاق ومبادي آداب ، كان كلّ ذلك من قبيل تداعي المعاني ، الخارج من دلالة اللفظ ذاته ، بل الشيء قد يذكر بالشيء ، حتّى ولو كان ضدّه ، فضلا عمّا لو كان نظيره.
مثلا : عند ما يستمع العارف السالك إلى قوله تعالى ـ خطابا مع موسى وهارون ـ : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣) ، ينسبق إلى ذهنه بادرة ضرورة تهذيب النفس وارعوائها عن الطغيان والعصيان قبل كلّ شيء. فيخاطب نفسه : ما بالك أنت ، منشغلا عن فرعنة نفسك الطاغية ، فاذهب إليها واجمع جموعك في تهذيبها وترويضها ، ولاطف معها بلين ، لعلّها تتّعظ وترعوى وترضخ لإرشادات العقل الحكيم.
فهذا لم يفسّر القرآن ولا جعل فرعون مرادا به النفس الأمّارة بالسّوء ، ولا موسى وهرون كلّ إنسان لبيب حكيم. بل خطر إلى ذهنه هذا المعنى ، متّعظا ومتذكّرا من فحوى الآية بالمناسبة.
__________________
(١) نقلا عن الإتقان للسيوطي ٤ : ١٩٧.
(٢) حسب تعبير ابن الصلاح فيما يأتي من نقل كلامه.
(٣) طه ٢٠ : ٤٣.