رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تمر الصدقة ، جعلته في غرفة لي ، فكنت أجد فيه كلّ يوم نقصانا ـ وساق الحديث إلى قوله ـ : ولقد كنّا في مدينتكم هذه حتّى بعث صاحبكم ، فلمّا نزلت عليه آيتان أنفرتنا منها فوقعنا في «نصيبين» ، ولا تقرآن في بيت إلّا لم يلج فيه الشيطان ثلاثا ، فإن خلّيت سبيلي علّمتكهما! قلت : نعم! قال : آية الكرسيّ وآخر سورة البقرة فخلّيت سبيله (١).
[م / ١٥٥] وأخرج أبو عبيد في فضائله ، والدارميّ ، والطبرانيّ ، وأبو نعيم في دلائل النبوّة ، والبيهقيّ عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رجل من الإنس ، فلقيه رجل من الجنّ ، فقال الجنّي : هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علّمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك ، لم يدخله شيطان! فصارعه ، فصرعه الإنسيّ فقال : تقرأ آية الكرسيّ ، فإنّه لا يقرأها أحد إذا دخل بيته إلّا خرج الشيطان ، له خبج كخبج الحمار (٢).
وفي ذيل الحديث : سئل ابن مسعود عن الرجل الذي صارع الجنّيّ فصرعه؟ فقال : من عسى أن يكون إلّا عمر!! (٣)
قلت : يا لله والمهازل ، كيف تنسب مخاريف سخيفة إلى كبار الصحابة الأجلاء ، أمثال : عبد الله ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل. وحاشاهم من نسبة تلك الأباطيل إليهم. دع عنك أبا هريرة : كان لا يحتاج إلى من يزمّر له ، وقد نشط على سرد الأقاصيص في أحضان معاوية ، حيث كان يجعل الجعائل على رواج الأساطير والقصص الملهية (٤).
وأظنّنا في غنى عن تبيين مواضع السخف من هذه الأحاديث المفتعلة ، البادية عليها آثار الاختلاق.
ونحن إذ لا نعاتب الحشويّة في حشدهم لهكذا أحاديث هزيلة ، حيث دأبوا على حصد الغث والسمين من غير مبالاة. ولكن نوجّه عتابنا إلى أولئك الأئمّة من كبار المحدّثين أمثال البخاريّ
__________________
(١) الكبير ٢٠ : ٥١ ـ ٥٢ / ٨٩ ؛ الدلائل لأبي نعيم ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠١ ـ ٥٤٧ ؛ الدلائل للبيهقي ٧ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، باب ما جاء في الشيطان.
(٢) الخبج ـ بفتحتين ـ : الضّراط.
(٣) الدرّ ٢ : ٧ ؛ الدارمي ٢ : ٤٤٨ ؛ الكبير ٩ : ١٦٦ / ٨٨٢٦ ؛ الدلائل لأبي نعيم ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / ٢٦٨ ، وفيه : «له هيج كهيج الحمار» ؛ مجمع الزوائد ٩ : ٧٠ ـ ٧١.
(٤) تحدّثنا عن مناشئ رواج الإسرائيليات وقصص القصّاصين يومذاك ، في كتابنا : التمهيد ١٠ : ٣٧ ، عند الكلام عن آفات التفسير بالنقل.