وأولى الملاحظات التي ينبغي توجيهها للمذهب الحنفي ، أن أبا حنيفة النعمان لم يكن يرضى أن يقلّده الآخرون من تلامذته ، فهو أساساً غير متيقن من فتاواه وأحكامه ، فهو على حد قوله : يرى الرأي اليوم ويتركه غداً ، ويرى الرأي غداً ، ويتركه في غده ، ولذلك نهى أتباعه من تدوين كل ما يسمعونه منه (١).
ولم يشأ أبو حنيفة ، الانتصار لرأيه ، إذ شجّع تلاميذه على الاستقلال برأيهم ، ونهاهم عن التزام أقواله ، وتحرّر بعضهم من التقليد الأعمى له ، كلما انقدح لهم وجه الحق في غير مقالة أبي حنيفة ، ووجدوا الدليل المُخالف لما ذهب إليه (٢).
فكيف إذن يحق لأحد ، التأكيد ان أبا حنيفة ، أعلم الفقهاء المعاصرين له؟ وهناك من يكتشف أخطاءه ومثالبه الفقهية؟
بل ان قول أبي حنيفة بالخصوص : هذا الذي نحن فيه رأي ، لا نجبر أحداً عليه ، ولا يجب على أحد قبوله بكراهية ، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به (٣) ، لدليل على عدم إطمئنان الامام بفتاواه وأحكامه ، وإن هناك من الرجال ، من هو أعلم منه ، وأعمق في التفقّه والإفتاء.
ثم ان أبا حنيفة ، لم يؤلّف في مذهبه كتباً ، لأنه لم يكن يُريد أن تصبح أحكامه وأقواله ، مرجعاً للآخرين ، وهو بالتالي كان فقيهاً كالفقهاء الآخرين من قبله ، كفقهاء المدينة وغيرهم ، من أمثال سعيد بن المسيب وسفيان بن عيينة وأبي ثور وسفيان الثوري الخ .. ولكن تلاميذه ، كأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني ، هم الذين ألّفوا
__________________
(١) المذاهب الفقهية : ٤٥.
(٢) المذاهب الفقهية : ٤٤.
(٣) أدب الاختلاف : ٧٧.