غفرانه منه بنور ذاته فقال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي : القيامة الكبرى ولا يجازيني من ظهور البقية بالحرمان ، ثم سأل الاستقامة في التحقق به في مقام البقاء بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : حكمة وحكما بالحق لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعلني محبوبا لك فيحبني بحبك خلقك أبدا فيحصل لي (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) إذ لا بد لمن يحب شيئا من كثرة ذكره بالخير ذكر اللازم مكان الملزوم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي : إلا حال من أتى الله وسلامة القلب بأمرين : براءته عن نقص الاستعداد في الفطرة ، ونزاهته عن حجب صفات النفس في النشأة.
يمكن أن يؤوّل كل نبيّ مذكور فيها بالروح أو القلب وتكذيب قومه المرسلين بامتناع القوى النفسانية عن قبول التأدّب بآداب الروحانيين والتخلق بأخلاق الكاملين. وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : (أَلا تَتَّقُونَ) معناه : تجتنبون الرذائل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أؤدي إليكم ما تلقفت من الحق من الحكم والمعاني اليقينية غير مخلوطة بالوهميات والتخيلات (فَاتَّقُوا اللهَ) في التجريد والتزكية (وَأَطِيعُونِ) في التنوّر والتحلية (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) مما عندكم من اللذات والمدركات الجزئية فإني غنيّ عنها (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) بإلقاء المعاني والحكم الكلية وإشراق الأنوار اللذيذة القدسية.
[٢١٠ ـ ٢١٢] (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))
(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) لأن تنزّلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل ، فإنّ مدركات الشياطين من قبيل الوهميات والخياليات ، فمن تجرّد عن صفات النفس وترقى عن أفق الوهم إلى جناب القدس ، وتنوّرت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية ، وأشرق عقله بالاتصال بالعقل الفعال ، وتلقى المعارف والحقائق في العالم الأعلى ما ينبغي ولا يمكن للشياطين أن يتنزّلوا عليه ولا أن يتلفقوا المعارف والحقائق والمعاني الكلية والشرائع ، فإنهم معزولون عن جناب سماء الروح واستماع كلام الملكوت الأعلى ، مرجومون بشهب الأنوار القدسية والبراهين العقلية ، لأن طور الوهم لا يترقى عن أفق القلب ومقام الصدر ولا يتجاوز إلى السرّ ، فكيف إلى حدّ من هو (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (١)؟.
[٢١٣] (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))
__________________
(١) سورة النجم ، الآيات : ٧ ـ ٨.