بإدراك ذلك على التفصيل (١) ، فاقتضت حكمة العزيز العليم ، بأن بعث الرسل به معرفين ، وإليه داعين ، ولمن أجابهم مبشرين ، ولمن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. وعلى هذه المعرفة تنبنى مطال الرسالة جميعها ، فإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود.
ولما كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الرب تعالى (٢) قال أفضل الداعين إليه صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١) وقال الحافظ في «الفتح» : ليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها أه. وسيأتي مزيد بيان لذلك في آخر هذا الفصل.
(٢) هاهنا مسألة مهمة وهى معرفة الله تعالى : وهل هى أول واجب على المسلم معرفة الله بالأدلة وأنه لا يصح إيمان المقلد والعامى ، وقال إمام الحرمين : أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى ، واختلفوا في أول واجب؟! فقيل : المعرفة ، وقيل : النظر ، وقال المقترح : لا اختلاف في أن أول واجب خطابا ومقصودا : المعرفة وأول واجب اشتغالا وأداء القصد إلى النظر ، قال الحافظ : وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة ، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه ، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام فمن دخل فيه من غير تنقيب ، والآثار في ذلك كثيرة جدا.
وأجاب الأولون عن ذلك بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه ، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم ، ومقتضى هذا أن المعرفة المذكورة يكتفى فيها بأدنى نظر بخلاف ما قرروه ، ومع ذلك فقول الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وحديث : «كل مولود يولد على الفطرة» ظاهران في دفع هذه المسألة من أصلها أه. «الفتح» (١ / ٨٩).
وقال مرة في شرح حديث : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... الحديث ، وفيه ... فإن فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله».
قال : وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر ، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة ، ويؤخذ منه : ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع ، وقبول توبة الكافر من كفره من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. ا ه «الفتح» (١ / ٩٧) وسيأتى مزيد بيان لهذه المسألة في شرح الحديث التالي ، وانظر التعليق في آخر هذا الفصل ص (٣٦ وما بعدها).