(اعلم) أن الله بعث رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم وأهل الأرض أحوج إلى رسالته من غيث السماء ، ومن نور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس الظلماء (١) فضرورتهم إليها أعظم الضرورات ، وحاجاتهم إليها مقدمة على جميع الحاجات فإنه لا حياة للقلوب ولا سرور ولا لذة ولا نعيم ولا أمان إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ويكون ذلك أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه (٢) ، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية
__________________
(١) الحندس : الظلمة ، والليل الشديد الظلمة ، وتحندس : أظلم ، والجمع : حنادس (الوجيز).
(٢) وقال في «الفوائد» : خلق الله القلوب وجعلها محلا لمعرفته ومحبته وإرادته ؛ فهى عرش المثل الأعلى الّذي هو معرفته ومحبته وإرادته ، قال تعالى (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠) ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) ، وقال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١).
فهذا من المثل الأعلى ، وهو مستو على قلب المؤمن فهو عرشه ، وإن لم يكن أطهر الأشياء وأنزهها وأطيبها وأبعدها من كل دنس وخبث لم يصلح لاستواء المثل الأعلى عليه ، معرفة ومحبة وإرادة ، فاستوى عليه مثل الدنيا الأسفل ومحبتها وإرادتها والتعلق بها ، فضاق وأظلم وبعد من كماله وفلاحه حتى تعود القلوب على قلبين : قلب هو عرش الرحمن ففيه النور والحياة ، والفرح والسرور والبهجة ، وذخائر الخير ، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم.
وقال في مكان آخر : اعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب ، ووضع في صدره عرشا لمعرفته ؛ يستوي عليه المثل الأعلى ، فهو مستو على عرشه بذاته سبحانه ، بائن من خلقه ، والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب ، وعلى السرير بساط من الرضا ، ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره ، وفتح إليه بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه ، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس ، وجعل في وسط البستان شجرة المعرفة ، فهى تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه ، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه ، وفهمه والعمل بوصاياه أه. مختصرا.