وكماله أن يكون مجاورا له في داره مع الطيبين. فأخرج من المادة النارية من جعله محركا للنفوس داعيا لها إلى محل الخبث لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع ، وتميل إليه بالمناسبة ، فتتحيز إلى ما يناسبها وما هو أولى بها حكمة ومصلحة وعدلا ، لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها ، بل أقام داعيا يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوما لبارئها وخالقها من أحوالها ، وكان خفيا على العباد فلما استجابت لأمره ؛ ولبت دعوته ، وآثرت طاعته على طاعة ربها ووليها الحق الّذي تتقلب في نعمه وإحسانه ظهر لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس وطردها عنه وإبعادها عن رحمته ؛ وأقام للنفوس الطيبة داعيا يدعوها إليه إلى مرضاته وكرامته ، فظهر لهم حمده التام وحكمته البالغة في الأمرين ، وعلموا أن خلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه ، وخلق وليه وعبده جبريل وجنوده وحزبه ، هو عين الحكمة والمصلحة ، وأن تعطيل ذلك مناف لمقتضى حكمته وحمده.
يوضحه : أن من لوازم ربوبيته تعالى وإلهيته إخراج الخبأ في السماوات والأرض من النبات والأقوات والحيوان والمعادن وغيرها ، وخبأ في السماوات ما أودعها من أمره الّذي يخرجه كل وقت بفعله وأمره وهذا من تدبيره لملائكته وتصرفه في العالم العلوي والسفلى ، فبإخراج هذا الخبأ تظهر قدرته ومشيئته وعلمه وحكمته. وكذلك النفوس فيها خبأ كامن يعلمه سبحانه منها ، فلا بد أن يقيم أسبابا يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامنا فيها ، فإذا صار ظاهرا عيانا ترتب عليه أثره. إذ لم يكن يترتب على نفس العلم به دون أن يكون معلوما واقعا في الوجود.
* * *
(حكمة الابتلاء)
قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران : ١٧٩) ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)