بغير تقدم عمل منهم ولا معرفة ولا إقرار ، فما المانع أن تدرك رحمته من قد أقر (به) في دار الدنيا ، واعترف بالله ربه ومالكه ، واكتسب ما أوجب غضبه عليه ، فعاقبه بما اكتسبه ، وعرفه حقيقة ما اجترحه وأشهده أنه كان كاذبا مبطلا ، وأن رسله هم الصادقون المحقون ؛ فشهد ذلك وأقر على نفسه وتقطعت نفسه حسرة وندما ؛ وأخرجت النار منه خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد. ولا يقال الخبث لا يفارقهم والإصرار لا يزول عنهم ؛ كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (الأنعام : ٢٨) فإن هذا ليس في حكم الطبيعة الحيوانية. ولهذا في الدنيا لما يمسهم العذاب تجد عقدة الإصرار قد انحلت عنهم وانكسرت نخوة الباطل ولكن لم تطهر قلوبهم بذلك وحده.
وأما قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) فذلك قبل دخول النار فقالوا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨) وهذا إخبار عن حالهم قبل أن يدخلوا النار ، وقبل أن تذيب لحومهم ونفوسهم التي نشأت على الكفر ؛ فالخبث بعد كامن فيها ؛ فلو ردوا والحالة هذه لعادوا لما نهوا عنه ، والحكمة والرحمة تقتضى أن النار تأكل تلك اللحوم التي نشأت من أكل الحرام ، وتنضج تلك الجلود التي باشرت محارم الله تعالى ، وتطلع على الأفئدة التي أشركت به وعبدت معه غيره. فتسليط النار على هذه القلوب والأبدان من غاية الحكمة ؛ حتى إذا أخذت المسألة حقها وأخذت العقوبة منهم مأخذها وعادوا إلى ما فطروا عليه ، وزال ذلك الخبث والشر الطارئ على الفطرة ، والعزيز الحكيم حينئذ حكم هو أعلم به ، وهو الفعال لما يريد.
والوجه السابع عشر : إن أبدية النار كأبدية الجنة ، إما أن يتلقى القول بذلك من القرآن أو من السنة أو من إجماع الأمة ، أو من أدلة العقول أو من القياس على الجنة. والجميع منتف. أما القرآن فإنما يدل على أنهم غير خارجين منها ؛ فمن أين يدل على دوامها وبقاء أبديتها؟ فهذا كتاب الله وسنة رسوله أرونا ذلك منهما