حتّى تدرك بالمدارك المثاليّة كما في نزول الملائكة على الأنبياء ، فما لم يرتفع الدّانى أو لم يتنزّل العالي لا يمكن ادراك الدّانى للعالي ، فاذا سأل الدّانى في دنوّه بلسان حاله أو قاله رؤية العالي في علوّه فجوابه العتاب على هذا السّؤال والمنع من مسئوله والزّجر على مأموله لسؤاله ما ليس له ان يسأل. ثمّ اعلم انّ الإنسان من اوّل استقراره في الرّحم جماد بالفعل وله قوّة الانسانيّة ولمّا كان ضعيفا غير قابل لقبول اثر العقل جعل الباري تعالى نفس الامّ واسطة في فيضان نور العقل عليه حتّى إذا استكمل بحيث يستعدّ لقبول فيض العقل بلا واسطة يتولّد وليس له حينئذ من اثر العقل الّا فعليّة المدارك الحيوانيّة الظّاهرة فيتدرّج في الاستكمال بفيض العقل حتّى يتحقّق فيه طليعة ضعيفة من اشراق العقل ، فيدرك البديهيّات الاوّليّة الكلّيّة الّتى من شأنها ان يكون مدركها العقل فيتدرّج في الاستكمال ويتقوّى تلك الطّليعة حتّى يمكنه اكتساب الكلّيّات فيتدرّج في ذلك حتّى يعاين مكتسباته فيتدرّج حتّى يتحقّق بها وصار عالما علميّا مضاهيا للعالم العينىّ بل عالما غيبيّا محيطا بالعالم العينىّ ، وحينئذ يصير مطلقا عن قيوده خارجا من حجبه وحدوده وله استعداد شهود الحقّ الاوّل تعالى لكن اشتداده وترقيّه الى زمان البلوغ وهو زمان الاستبداد بالرّأى والاستقلال في الاختيار ، وبعبارة اخرى الى زمان يمكنه ادراك خيره وشرّه الاخرويّين كان على الصّراط المستقيم بأسباب الهيّة لا مدخل للعبد فيها ولا اختيار له ولذا : قيل كن مع الله كما كنت حتّى كان معك كما كان ، وإذا وصل الى مقام البلوغ وكله الله الى اختياره ونبّهه على خيره وشرّه على ألسنة خلفائه الظّاهرة والباطنة وأعانه على اختياره الخير وخذله في اختياره الشّرّ ، فان ساعده التّوفيق وتداركه جذبة من جذبات الرّحمن وهي خير من عبادة الثّقلين استراح من تعب السّلوك ورفع القلم عنه وصار من الشّيعة الّذين رفع القلم عنهم ، وان وكله الله الى نفسه وخذله باختياره الشّقاء التحق بالشّياطين ، وان وفّقه الله للسّلوك اليه باختياره الخير والتّقوى من الشّرّ ، فامّا ان يسلك بقدم نفسه ويتعب نفسه في السّلوك اليه ، وبعبارة اخرى امّا ان يعبد الله مع بقاء حكم النّفس عليه وفي قيود انانيّته ويسمّى تقرّبه حينئذ بقرب النّوافل وهذا وان أتعب نفسه في السّلوك والعبادة وجاهد غاية المجاهدة لم يكن له شأنيّة المشاهدة والمواصلة وليس له الّا الفرقة والمباعدة ، أو يسلك الى الله ويعبد الله من غير بقاء حكم النّفس وأثرها عليه ويسمّى تقرّبه بقرب الفرائض وهذا لخروجه من حدود نفسه وقيودها وارتفاعه عن حجاب انّيّته له شأنيّة المواصلة والمشاهدة بل يصير هو الشّاهد والمشهود في كلّ شاهد ومشهود ، والبصير والمبصر والسّميع والمسموع ، والاوّل وان كان مستريحا من تعب السّلوك ملتّذا بلّذة الشّهود والها في المحبوب ليس له كمال مقام الجمع والتجمّل بالأعوان والجنود ، والثّانى وان كان له جمعيّة وسعة وتجمّل ليست له لذّة المشاهدة والسّرور الاتمّ فهما ناقصان كلّ بوجه ، والثّالث له الكمال الاتمّ والسّرور الأبهى والجمال الاجمل لجمعه بين كمال الشّهود والتجمّل بالأعوان والجنود ، وله الخلافة الكبرى والرّياسة العظمى ، إذا عرفت ذلك فقس قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) ، الى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حتّى تعرف مقام محمّد (ص) في العبادة والسّلوك ومقام موسى (ع) وتعرف انّ موسى (ع) سلك بقدم نفسه لا بربّه ولذلك كان مستحقّا لجواب لن تراني ، وانّ محمّدا (ص) سار باسراء ربّه لا بسير نفسه ، وانّ محمّدا (ص) هو السّميع لكلّ مسموع في مرتبته والبصير لكلّ مبصر فضلا عن نعمة مشاهدة ربّه ورؤية آياته الكبرى كما هو الظّاهر من آخر الآية فانّ الظّاهر عدم الالتفات في آخر الآية وتطابق ضمير (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) مع ضمير (لِنُرِيَهُ). ولمّا كان المتبادر الى