اعلم ، انّ الإدراك حقيقة مشكّكة ذات مراتب متفاوته في الشّدّة والضّعف ، ولكلّ مرتبة من مراتبه اسم خاصّ وشرائط خاصّة لحصولها مثلا ادراك زيد تصوّرا جزئيّا مرتبة منه إدراكه بالبصر ويسمّى رؤية ، ومرتبة منه إدراكه بالخيال ويسمّى تخيّلا ، ومرتبة منه إدراكه بالعين المثاليّة في المنام ويسمّى رؤيا ، ومرتبة إدراكه بالعين المثاليّة بالكشف الصّورىّ في عالم المثال ويسمّى كشفا صوريّا وشهودا ؛ والكلّ ادراك النّفس الانسانيّة لشخص زيد بحيث لا يمكن لأحد ان يقول : انّ زيدا بشخصه غير مدرك في مرتبة من تلك المراتب والتّفاضل بين تلك الإدراكات بديهىّ وجدانىّ ، فانّ ادراك الخيال أضعف أنواع الإدراك وأقواها الإدراك بالرّؤية والإدراك شهودا بالعين المثالىّ ، وكما يسمّى الإدراك البصرىّ رؤية يسمّى الإدراك الكشفىّ رؤية كما لا يخفى ، هذا في التّصوّرات والإدراكات الجزئيّة وهكذا الحال في التّصديقات والإدراكات الكلّيّة ، فانّ الحكم بكون الأمير في البلد قد يدرك توهّما ، وقد يدرك شكّا وظنّا ، وقد يدرك علما عاديّا وتقليديّا ويقينيّا برهانيّا ويقينيّا شهوديّا والتّفاضل بينها غير مخفىّ وأقواها وأتمّها واشدّها هو العلم الشّهودىّ ويسمّى هذا العلم الشّهودىّ في ذلك التّصديق الشّخصىّ رؤية باعتبار ، كما يسمّى علما وشهودا وعيانا وتصديقا باعتبارات أخر ، وعلم من ذلك انّ الرّؤية غير مختصّة بالرّؤية البصريّة المشروطة بمقابلة المرئىّ للرّائى أو بحكم المقابلة كالرّؤية في المرآة والماء وبتوسّط جسم مشفّ وعدم القرب المفرط والبعد المفرط وعدم آفة في العين وعمدتها التفات النّفس الى الآلة وفعلها ، فانّ الإدراك البصرىّ صفة النّفس لكن في مقامها النّازل ومرتبة الباصرة بل مقولة على ادراك عين الخيال في عالم المثال كرؤية المكاشفين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الصّادقة ، وعلى ادراك عين الخيال في عالم الخيال كرؤية المسرسمين والمبرسمين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الكاذبة ، فانّه لا يشكّ أحد من هؤلاء ولا ممّن اطّلع على عالمهم وكيفيّة ادراكهم انّ مدركاتهم مرئيّات حقيقة وانّه لا يصحّ سلب الرّؤية عنها. فالرّؤية في المدركات المتقدّرة الجزئيّة عبارة عن قوّه الإدراك وشدّته بحيث لا يتصوّر ادراك أتمّ وأقوى منه سواء كانت بالآلة المخصوصة أم بغيرها ، وسواء كان المدرك مصاحبا للمادّة أم غير مصاحب ، فصحّ اطلاق الرّؤية على المتقدّر المجرّد عن المادّة كما يصحّ إطلاقها على المتقدّر المادّىّ ولا اختصاص له بالمادّىّ ، وهذا التّفاضل يجرى في المدركات العقليّة المجرّدة عن المادّة والتّقدّر ، فانّ العقول الكلّيّة والملائكة المقرّبين قد يتوهّم وجودها ثمّ يشتدّ هذا التّوهّم فيصير شكّا ثمّ ظنّا ثمّ علما عاديّا وتقليديّا ثمّ علما يقينيّا برهانيّا ، فاذا اشتدّ هذا العلم بحيث يخلّص العالم من المادّة وغواشيها ويرفعه عن العالمين ويوصله الى المجرّدات حتّى يشاهدها ويلحق بها صار إدراكه اشدّ ما يتصوّر وعلمه عيانا ، فان شئت فسمّ هذا العلم العيانىّ رؤية فانّه لا مانع من اطلاق الرّؤية بهذا المعنى عليه بل حقيقة الرّؤية وهي الانكشاف التّامّ الّذى لا يتصوّر فوقه انكشاف ، وادراك هنا أتمّ وأقوى من الانكشاف بآلة البصر وقد عرفت ان لا مدخليّة لخصوص آلة البصر في الرّؤية ؛ وهكذا الحال في الحقّ الاوّل تعالى شأنه وصفاته. ثمّ اعلم انّ المعلوم المدرك في اىّ عالم كان لا بدّ وان يكون المدرك لذلك المعلوم بذاته أو بآلاته ، ووسائط دركه من سنخ ذلك العالم للزوم نحو من الاتّصال أو نحو من الاتّحاد بين المدرك والمدرك كما قرّر في الحكميّات والفلسفة الاولى ، الا ترى انّ المدركات المادّيّة الّتى هي من عالم المادّة لا تدرك الّا بآلات مادّيّة كالحواسّ الخمس الظّاهرة ، والمدركات الخياليّة والمثاليّة الّتى هي من سنخ عالم المثال لا تدرك الّا بالحواسّ الباطنة الّتى هي ارفع من عالم المادّة ، والمعقولات الّتى هي ارفع من العالمين لا تدرك الّا بقوّة ليست من سنخ عالم المادّة ولا من سنخ عالم المثال فاذا أريد ادراك العقول لا بدّ وان يرتفع المدرك عن العالمين ويصير عقلا مجرّدا عن المادّة والتقدّر أو يتنزّل العقول عن عالمها العقلىّ وتتمثّل بصور متقدّرة