وجاؤا فرعون (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) وقرئ بهمز واحد على المعاهدة والميثاق (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) يعنى ابتداء (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيّروه إظهارا للأدب أو الجلادة وعدم المبالاة بما يقابل سحرهم ، لكن لرغبتهم في الإلقاء ابتداء غيّروا النّظم واكّدوا الجملة وان ذكروا القاءهم مؤخّرا جلادة أو مراعاة للأدب (قالَ أَلْقُوا) قدّمهم على نفسه كرما ومقابلة لادبهم بترجيحهم على نفسه وقلّة مبالاة بسحرهم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) السّحر يقال لكلّ علم وعمل خفىّ مدركه ومأخذه سواء كان بتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة أو بالتّصرّف في القوى الطّبيعيّة فقط ، ويقال لتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن مجرى العادة ومنه التّصرّف في المدارك البشريّة بحيث يرى ويسمع ما لا حقيقة له ، وكأنّهم سحروا بتسخير الرّوحانيات الخبيثة وتمزيجها مع القوى الطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن العادة ولذا قال سحروا أعين النّاس ، فما نقل : أنهم القوا حبالا وعصيّا مجوّفة مملّوة من الزيبق ؛ ان كان صحيحا كان أحد جزئي سحرهم من القوى الطّبيعيّة والّا لم يكن لنسبة السّحر الى أعين النّاس حينئذ وجه (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) نقل انّ السّاحة الّتى القوا سحرهم فيها كانت ميلا في ميل وملئوا الوادي من الحبال والخشب الطّوال المتحرّكة كأنّها أفاع عظيمة ولذلك أوجس في نفسه خيفة موسى (ع) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ) حية (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) من الافك بمعنى الصّرف وقلب الشّيء عن وجهه نقل ، انّها لمّا تلقفت حبالهم وعصيّهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتّى هلك جمع كثير منهم ، ثمّ أخذها موسى (ع) فصارت عصا فأيقن السّحرة انّها لو لم تكن الهيّة لبقي حبالهم وعصيّهم واعترفوا برسالة موسى (ع) ونقل ، انّهم قبل الموعد آمنوا بموسى (ع) خفية وأظهروا ايمانهم يوم الموعد (فَوَقَعَ الْحَقُ) اى ثبت (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا) اى قوم فرعون والسّحرة جميعا أو قوم فرعون (هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) كأنّهم ألقاهم ملق من شدّة اضطرابهم كأنّه لم يبق لهم تماسك (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بيّنوا المجمل بالابدال منه (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) اى مدينة مصر (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) المالكين لها المتصرّفين فيها وهم القبطيّة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد لهم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد من جانب والرّجل من جانب آخر (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تعذيبا وتفضيحا لكم وعبرة لغيركم توعيد وتغليظ (قالُوا) إظهارا لعدم مبالاتهم بتوعيده (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فالموت والقتل كان خيرا لنا فتهديك بالقتل بشارة لنا لا تهديد كما زعمت ، وفي قولهم : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ؛ اشارة الى هذا ، أو المقصود انّا نحن وأنتم الى ربّنا منقلبون آخر الأمر فيجازى كلّا بحسب عمله وفي قولهم (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) اشعار بهذا المعنى يعنى نحن وأنتم راجعون الى الله والحال انّ انتقامكم منّا ليس الّا بسبب ايماننا بربّنا فأنتم اولى بالخوف منّا فيكون تهديدا لهم ، ولمّا أظهروا عدم مبالاتهم بتهديده خافوا من عدم ثباتهم وصبرهم على القطع والصّلب فتضرّعوا الى الله تعالى