السبيل إلى اليقين (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) فليس هذا الشك الذي يتردد في صدورهم ويتجمد في عقولهم هو شك الباحثين عن الحقيقة ، الذين يرسمون علامات الاستفهام ويلاحقون الاحتمالات الطائرة أمامها ، بل هو شك من يلعبون بالأفكار فيواجهونها مواجهة العبث واللامبالاة ، ولا يتوقفون أمام دقائقها ، ولا ينفتحون على حقائقها ، ويلعبون بالكلمات التي يحركونها في مواقع اللهو واللعب ، فلا يدققون في مضمون ما يسمعونه من نداء الرسالات ، أو ما يتكلمون به في مواجهة الرسل ..
وماذا تنتظر من هؤلاء الذين لا يقفون أمام الحجة ، ولا ينطلقون منها (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) انتظر اليوم الذي يمتلئ الجو فيه دخانا ، وذلك بسبب المجاعة التي يتحوّل فيها الإحساس بالجوع إلى حالة يبصر فيها الإنسان الفضاء كما لو كان مملوءا بالدخان ـ كما في بعض التفاسير ـ أو بسبب الدخان الحقيقي الذي يأتي قبيل حدوث الساعة ـ كما في بعض آخر ـ وربما كان الوجه الثاني أقرب إلى سياق الآية ومفرداتها ، لأنها تتحدث عن دخان آت من جانب السماء ، كحقيقة ملموسة ، لا كحالة وهميّة تخيلها للإنسان إحساساته الأليمة.
ولكننا نجد ما يؤيّد التفسير الأول ، الذي تدعمه بعض الروايات التي تتحدث عن مجاعة ابتلي بها أهل مكة ، فإنهم لما أصروا على كفرهم وأذاهم للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنين به ، دعا عليهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «فقال : اللهم سنين كسني يوسف ، فأجدبت الأرض ، فأصابت قريشا المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام ، وجاءوا إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقالوا : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم .. وقومك قد هلكوا ، فسأل الله تعالى لهم الخصب والسعة ، فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر»(١) (يَغْشَى النَّاسَ) ويخيّم عليهم ويحيط بهم ، (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) يرونه قادما
__________________
(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ٩٤.