والمعرفة العظيمة بالله ، دائبون في عبادته ، مستمرون في السجود له ، مستغرقون في تسبيحه (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) ولا يملّون ، بل يزدادون حركة ونشاطا وإقبالا كلما ازدادوا عبادة لأنهم لا يسبّحون له ، بناء على بعض مظاهر عظمته إلا ويجدون منها مظاهر أخرى ، تزيدهم تعظيما له ، وتسبيحا .. وهكذا تصبح العبادة بمثابة الغذاء الروحي الشهيّ الذي يتناولونه في كل وقت من الليل والنهار ، كما يتناول الناس طعامهم وشرابهم عند الإحساس بالجوع في أي ساعة من ساعات اليوم.
* * *
بين خشوع الأرض والمعاد
(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) خشوع الموت في سكونها وبرودتها وذلّتها فلا شيء يتحرك فيها ، بل هو التراب الذي تتلاعب به الرياح فيستسلم لها لتنقله من مكان إلى مكان فلا يثير إلا الغبار ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) فنفذ إلى أعماقها ، وتفاعل مع ترابها ، ودخل في عمق بذورها (اهْتَزَّتْ) اهتزاز الحركة الحيّة عند ما دبت الحياة في داخلها (وَرَبَتْ) فارتفعت بنباتها في خضرته واحمراره واصفراره وغصونه وثماره ، وبرزت في عزتها المتمثلة بالخضرة الطافرة ، والصورة الساحرة ، والنتاج الشهيّ الذي ينطلق العطاء فيه كأسخى ما يكون العطاء ، فما ذا يوحي ذلك كله للإنسان الواعي المفكر؟ هل يكتفي بالمراقبة الجامدة للظاهرة الطبيعية أم يستغرق في الجانب الجمالي منها؟ أم ينتقل من هذه الصورة المادية ، إلى الإيحاء المعنوي الذي يحمله عن المعاد ، حيث تصبح صورة حياة الأرض بعد الموت ، بقدرة الله ، دليلا على الصورة الأخرى التي يريد الله للناس أن يتمثلوها ، وهي صورة حياة الإنسان بعد الموت في اليوم الآخر ، لينتهي إلى هذه النتيجة : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإذا كان الله قادرا على إحياء الأرض بعد الموت ، فكيف لا يكون قادرا على إحياء الإنسان بعد موته ، وهو الذي لا يعصى على قدرته المطلقة؟!
* * *