(مِنْ ظُهُورِهِمْ) ولم يقل : من ظهره ذرياتهم أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن. ثم قال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) أي أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا وقالا ، والشهادة تكون بالقول ، كقوله : (قالُوا : شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الآية ، وتارة تكون حالا ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ، شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [التوبة ٩ / ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات ١٠٠ / ٧].
فالمراد من الآية أن الله تعالى جعل الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد حجة مستقلة عليهم ، ولهذا قال : (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلا تقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) أي التوحيد (غافِلِينَ) أي لم ننبه إليه (أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) الآية.
وإني لميّال لهذا الرأي ، وهو أولى الآراء بالصواب.
(أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ...) أي إن سبب الإشهاد لمنع اعتذارهم يوم القيامة بغفلتهم عن التوحيد ، أو بادعائهم التقليد ، وقولهم : إن آباءنا أشركوا من قبلنا ، ونحن خلف لهم ، نجهل بطلان شركهم ، وقد قلدناهم في أعمالهم واعتقادهم ، مع حسن الظن بهم ، ولم نهتد إلى التوحيد.
أفتهلكنا بالعذاب وتؤاخذنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم أبدا ؛ لأن التقليد في الاعتقاد وأصول الدين لا يجوز.
ومثل ذلك التفصيل البليغ الواضح للميثاق ، نفصل للناس الآيات البينات ، ليتدبروها بعقل وبصيرة ، ولعلهم يرجعون بها عن شركهم ، وجهلهم ، وتقليدهم الآباء والأجداد.