ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال ، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرنا.
وجملة ؛ (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة ، وضمير (قالَ) عائد إلى الله ، فمن جوز أن يكون الضمير في (قالَ) لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله : (فَأُمَتِّعُهُ).
وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) الأظهر أنه عطف على جملة : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) باعتبار القيد وهو قوله : (مَنْ آمَنَ) فيكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ وضمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله ، لما قدمناه في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه ، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم ، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.
ومعنى (أمتعه) أجعل الرزق له متاعا ، و (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف لبعد قوله : (فَأُمَتِّعُهُ) والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ).
وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا ، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج ، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي.
وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) احتراس من أن يغتر الكافر بأنّ تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
و (ثم) للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى