قبيح ، فالتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فعلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين. ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي؟ لأنه يرد على المعتزلة أيضا أنه كيف علم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة؟ فكان مذهب الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من الأدلة. ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في «رسالة القدرة والتقدر» التي لما تظهر.
وإسناد الختم المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خلقة في فلان ، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا ، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة ، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.
وجملة : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوفة على قوله : و (عَلى قُلُوبِهِمْ) بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصودا لأن على مؤذنة بالمتعلق فكأنّ (خَتَمَ) كرر مرتين. وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس العطف كالتصريح بالعامل. وليس قوله (وَعَلى سَمْعِهِمْ) خبرا مقدما لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها السد ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] ولأن تقديم قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء بالنكرة فلو كان قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هو الخبر لاستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من التأخير فقيل وعلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم.
وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل ، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع ، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه ، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).