هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب.
وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله.
[٣٨ ، ٣٩] (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))
كررت جملة (قُلْنَا اهْبِطُوا) فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) [البقرة : ٣٦] وذلك قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). إذ قد فصل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧] فإنه لو عقب ذلك بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا) فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف (قُلْنَا) لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) من قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الآية وهو مغاير لما بنى على قوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة (اهْبِطُوا) مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ (١).
__________________
(١) أردت بهذا أن أنبه على أن ما وقع في «الكشاف» أن اهبطوا الثاني تأكيد أراد به ما يقارب التأكيد وهو أنه يحصل من مجرد إعادة اللفظ. تقرير لمدلوله في الذهن وإن لم يكن المقصود من ذكره التأكيد وعليه فالفصل ليس لكمال الاتصال كما توهمه الشيخ عبد الحكيم عند قول البيضاوي كرر للتأكيد.