(الْحَمْدُ لِلَّهِ).
الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيّأ لتلقيه ، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة ، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر ، ولا تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان ، وتخامر رشدها نزغات الشيطان ، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلىاللهعليهوسلم كما تقدم آنفا نبه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدءوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة ، فإنها تضمنت أصولا عظيمة : أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). الثالث الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه (وَلَا الضَّالِّينَ).
وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوّجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق ، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة ، وليكون