الحضور مجازا أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين. ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف. قال الحرث بن حلّزة :
آذنتنا ببينها أسماء |
|
رب ثاو يملّ منه الثّواء |
فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه. وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.
ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [الأنعام : ١٥٠] ويكون قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) على هذه الوجوه حالا من الضمير في (ادعوا) أو من (شهداءكم) أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون (دون) بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه |
|
إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق (١) |
__________________
(١) يصف الخمر في الصفاء بأنها تريك القذى أمامها من شدة ما تكبر حجمه في نظر العين وهي بينك وبين القذى. وقوله : يتمطق أي يحرك فكيه ولسانه تلذذا بحسن طعمها. وهذا البيت من قصيدته القافية المشهورة.