يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم». وكان ذلك بعد أن انصرفنا من خدمته ، ومضى من الليل ما شاء الله أن يمضي ، وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه ، ولم يزل بين يديه إلى قرب السحر ، ثم أذن له في الانصراف ونهض له ليودعه فقبل وجهه ومسح على رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان ، وكنا نجلس عنده في الأحيان إلى بكرة ، وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله اه.
ثم قال بعد ذلك : وعاد السلطان بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها إلى دمشق ، وكان دخوله إليها في السادس والعشرين من شوال.
سنة ٥٨٩
ذكر وفاة السلطان صلاح الدين رحمهالله تعالى
كان ابتداء مرضه سادس عشر صفر. وذكر القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية تفاصيل ذلك (ثم قال) : وكانت وفاته بدمشق بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ولما وصل القارىء الذي كان يقرأ عنده إلى قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) تبسّم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه. وكان يوما لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين ، وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم ، وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم ، فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس.
ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص والأمراء والمعممين ، وكان يوما عظيما ، قد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة في أن ينظر إلى غيره ، وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه ، فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يلت به الطين. وغسله الدولعي الفقيه ، ونهضت إلى الوقوف على غسله ولم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر. وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط ، وكان ذلك وجميع ما أحتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه ، وارتفعت الأصوات عند مشاهدته