قبالته قاضي القضاة ، وبجانبه شاهدان معتبران ، ويجلس بجانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق ، ويليه صاحب ديوان المال ، ويقف بين يدي الوزير صاحب البلاد واسفهسلار العساكر ، وبين أيديهما الحجاب والنوّاب على طبقاتهم ، ويكون هذا الجلوس يومين في الأسبوع ، وآخر من تقلد المظالم في الدولة الفاطمية ، رزيك بن الوزير الأجلّ ، الملك الصالح طلائع بن رزيك ، في وزارة أبيه ، وكتب له سجل عن الخليفة منه ، وقد قلدك أمير المؤمنين النظر في المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم ، وكانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف ، جلس للنظر في المظالم صاحب الباب في باب الذهب من القصر ، وبين يديه الحجاب والنقباء ، وينادي مناد بحضرته يا أرباب الظلامات ، فيحضرون إليه ، فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة أو القضاة رسالة بكشفها ، ومن تظلم من أهل النواحي التي خارج القاهرة ومصر. فإنه يحضر قصة فيها شرح ظلامته ، فيتسلمها الحاجب منه حتى تجتمع القصص فيدفعها إلى الموقّع بالقلم الدقيق ، فيوقع عليها ، ثم تحمل بعد توقيعه عليها إلى الموقّع بالقلم الجليل ، فيبسط ما أشار إليه الموقع بالقلم الدقيق ، ثم تحمل التواقيع في خريطة إلى ما بين يدي الخليفة فيوقع عليها ، ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر ويسلم كلّ توقيع إلى صاحبه.
وأوّل من بنى دار العدل من الملوك ، السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمة الله تعالى عليه بدمشق ، عند ما بلغه تعدّي ظلم نوّاب أسد الدين شير كوه بن شادي إلى الرعية ، وظلمهم الناس ، وكثرة شكواهم إلى القاضي كمال الدين الشهرزوريّ ، وعجزه عن مقاومتهم ، فلما بنيت دار العدل أحضر شير كوه نوّابه وقال : إن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلّا بسببي ، والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه ، فامضوا إلى كلّ من كان بينكم وبينه منازعة في ملك أو غيره فافصلوا الحال معه وأرضوه بكلّ طريق أمكن ولو أتى على جميع ما بيدي. فقالوا إن الناس إذا علموا بذلك اشتطوا في الطلب. فقال : لخروج أملاكي عن يدي أسهل عليّ من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم ، أو يساوي بيني وبين أحد من العامّة في الحكومة. فخرج أصحابه وعملوا ما أمرهم به من إرضاء أخصامهم ، وأشهدوا عليهم. فلما جلس نور الدين بدار العدل في يومين من الأسبوع ، وحضر عنده القاضي والفقهاء ، أقام مدّة لم يحضر أحد يشكو شير كوه ، فسأل عن ذلك فعرّف بما جرى منه ومن نوّابه ، فقال الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. وجلس أيضا السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في يومي الاثنين والخميس لإظهار العدل ، ولما تسلطن الملك المعز أيبك التركمانيّ أقام الأمير علاء الدين أيدكين البندقداريّ في نيابة السلطنة بديار مصر ، فواظب الجلوس في المدارس الصالحية بين القصرين ومعه نوّاب دار العدل ليرتب الأمور وينظر في المظالم ، فنادى بإراقة الخمور وإبطال ما عليها من المقرّر ، وكان قد كثر الإرجاف بمسير الملك