يعيش (رأس مدلج) لا عدانا برّه وخيره ، يحلل لنا هذا وغيره ، فلا حول ولا
قوة إلّا بالله العلي العظيم ، ثم سرنا فلما تكامل من النهار شبابه ، واستنار وجهه
وصفى إهابه ، أفضى بنا إلى خان شيخون المسير ، وهو مكان موحش معطش ، يسقى فيه من بئر على بعير ،
فلمّا انهار ذلك النهار ، ومال الظل وامتد ، وحمى الحرّ واشتد ، واحتدم حموه واحتد
، أخذنا في أهبة الترحال ، وشددنا الأحمال على البغال ، ولم نزل نسير في تلك
الفيافي وهجيرها يلفح ، وزفيرها لا يكف عنّا ولا يصفح ، إلى أن حان
وقت المغيربان ، واختفت الشمس عن العيان ، [٢١ ب] فوصلنا إلى معرّة النّعمان ،
وذلك في ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان ، فنزلنا بها بمكان
مخوف كثير السّراق والذؤبان ، وبتنا بها وقلوبنا تخفق فرقا وتطير وجلا ، وإن رأينا
غير شيء ظنناه رجلا.
وقد كانت المعرّة
مدينة كبيرة وانتشأ بها من العلماء جماعة كثيرة ، وناهيك بأبي العلاء رأس النبلاء
وعين الفضلاء ، وزين الأدباء ، وفخر الشعراء ، والشيخ العلّامة الفهامة زين الدّين
بن الورديّ ، أفقه الشعراء ، وأشعر الفقهاء ، وأنبه الظرفاء ، وأظرف النبهاء ،
وكفاه برهانا على كماله وحجة نظمه الحاوي المسمّى بالبهجة ، وغيرهم من الأفاضل
والأعيان الأماثل ، وأما الآن فقد تعوضت من ذوي العلم بذوي الظلم ، ومن أهل الفضل
بأهل الجهل ، ومن الأماثل بالأراذل ، ومن الفقهاء بالسفهاء ، ومن الحداق بالسرّاق
، ومن أهل الأداب بالذئاب في الثياب ، وعامة أهلها الآن لصوص ، إلّا ما أخرجه من
التعميم الخصوص ، فأقمنا بها سواد الليل ثم رحّلنا البغال والخيل [٢٢ أ] ورحلنا
منها عند ظهور نجم الصبح الثاقب. وحدور ضده المراقب ،
__________________