الأصفر ، فأخذنا في أهبّة التّرحال وشددنا على الخيل الأحمال ، وقد أشيع أنّ الدرب مخوف ، وأنّ اللّصوص به تطوف ، وسرنا في براري وقفار ، ذات أشجار كبار ، موحشة المسالك ، كثيرة المهالك ، قد لمع سرابها ، وتوّقدت هضابها ، وصرخ بومها ، ونعق غرابها ، وقد اشتدّ حرّ الشمس ، وفاخر اليوم في شدائده الأمس ، فلم نزل سائرين سائر (١) ذلك اليوم إلى أن حلّ من الفطر الصوم ، وغشى الأعين النوم ، وعمّ الإعياء واللغوب (٢) جميع القوم ، وسامهم ذلك الحرّ والسموم أشد سوم ، وعاموا في العرق كل عوم ، وراموا الركون إلى الاستراحة [١٦٦ أ] أي روم ، فنزلنا حينئذ بالنّاس بجانب البحر بالقرب من قلعة باياس (٣) وبتنا بذلك المقام ليلة الجمعة حادي عشرين القعدة الحرام ، ثم سرنا منه ووجه المحجّة قد أماط النقاب ووضح بشعب الفجاج والشعاب. وحللنا (٤) في مروج وأزهار ، ومياه وأنهار ، وجزنا بعقبة المركز (٥) وقطعناها وانتهينا إلى عقبة بغراص (٦) ووصلناها وقيّلنا بأسفلها في روض نضير ، به ماء عذب نمير ، وأشجار من آس ، وفواكه مختلفة الأجناس ، ثم أخذنا في عقبة بغراص (٧) ، ذات الالتواء والاعتياص ، إلى أن سقطت الشمس للغروب ، وقد أنضت (٨) الرواحل من الإعياء وضعفت الأنفس من اللغوب ، فنزلنا بوسطها عند المسجد والخان ، والمياه الجارية في مثل الشاذروان ، فاستراحت الأجسام وارتاحت الأرواح ، وانشرحت الأنفس غاية الانشراح ، ونقعنا الغلّة من ذلك الماء وخفّف بعض ما كنت أجده من الحمى ، ثم
__________________
(١) وردت في (م) و (ع): «طول».
(٢) اللغوب : التعب الشديد والإعياء. (لسان العرب ١ : ٧٤٢).
(٣) باياس وبيّاس : بليدة شرقي أنطاكية وغربي المصيصة بقرب البحر وقلعة بغراص. (معجم البلدان ١ : ٥١٧ وأخبار الدول ٣ : ٣٣٧).
(٤) وردت في (ع): «دخلنا».
(٥) وردت في (ع): «بالعقبة المركب».
(٦) مرّ بها ووصفها صاحب الرحلة في بدايات الرحلة.
(٧) وردت في (ع): «بقراص».
(٨) وردت في (ع): «ألقيت».