وكذا قوله :
إلى كم تردّ الرّسل عما أتوا له |
|
كأنهم فيما وهبت ملام؟! (١) |
فإن أوله كناية عن الشجاعة ، وآخره كناية عن السماحة.
وكذا قول أبي تمام :
فإن أنا لم يحمدك عنّي صاغرا |
|
عدوّك ؛ فاعلم أنني غير حامد (٢) |
يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده ، أي : إن لم أكن أجيد القول في مدحك ، حتى يدعو حسنه عدوّك إلى أن يحفظه ويلهج به صاغرا ؛ فلا تعدّني حامدا لك بما أقول فيك ، ووصفه بالصّغار ؛ لأن من يحفظ مديح عدوّه وينشده فقد أذلّ نفسه ، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه.
وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم :
ضعيف العصا ، بادي العروق ترى له |
|
عليها ـ إذا ما أجدب الناس ـ إصبعا (٣) |
وقول الآخر :
صلب العصا ، بالضرب قد دمّاها (٤)
أي : جعلها كالدّم في الحسن.
والغرض من قول الأول «ضعيف العصا» وقول الثاني : «صلب العصا» وهما وإن كانا في الظاهر متضادين فإنهما كنايتان عن شيء واحد ، وهو حسن الرّعية ، والعمل بما يصلحها ، ويحسن أثره عليها.
فأراد الأول أنه رفيق مشفق عليها ، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة ، فهو يتخيّر ما لان من العصا.
وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها ، عارف بسياستها في الرّعي ، يزجرها عن المراعي التي لا تحمد ، ويتوخّى بها ما تسمن عليه ، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرّد والتبدّد ،
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ٢ / ١٤٤.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في زهر الآداب ٣ / ٢٦.
(٣) البيت من الطويل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ١٦٢ ، ولسان العرب (صلب) ، (صبع) ، (عصا) ، وكتاب العين ١ / ٣١٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٣١ ، وديوان الأدب ١ / ٢٧٤ ، والمخصص ٧ / ٨٢ ، وأساس البلاغة (عصي).
(٤) عجز البيت :
تودّ أن الله قد أفناها
والبيت من الكامل ، وهو لأبي العلاء بن سليمان في لسان العرب (فنى).