قال الله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) [مريم : الآية ٥] بالجزم ، فأما قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف ، وقال السكاكي : الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف ؛ لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السّلام ، وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدّر تضمنه ما قبله ، فكأنه لما قال : فهب لي وليا ، قيل : ما تصنع به؟ فقال : «يرثني» فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء ، وقولك : لا تشتم يكن خيرا لك ، أي : إن لا تشتم.
وأما العرض ، كقولك لمن تراه لا ينزل : ألا تنزل تصب خيرا ، أي : إن تنزل ؛ فمولّد من الاستفهام ، وليس به ؛ لأن التقدير أنه لا ينزل ، فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل ، وهو محال.
وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا ، كقوله تعالى : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) [الشّورى : الآية ٩] أي : إن أرادوا وليا بالحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه ، وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ) [المؤمنون : الآية ٩١] أي : لو كان معه إله إذن لذهب.
ومنها النداء ، وقد تستعمل صيغته في غير معناه ، كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم : يا مظلوم ، والاختصاص في قولهم : أنا أفعل كذا أيها الرجل ، ونحن نفعل كذا أيّها القوم ، واغفر اللهمّ لنا أيتها العصابة. أي : متخصصا من بين الرجال ، ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب.
ثم الخبر يقع موقع الإنشاء ، إما للتفاؤل ، أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مرّ ، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين ، أو للاحتراز عن صورة الأمر ، كقول العبد للمولى إذا حوّل عنه وجهه : ينظر المولى إليّ ساعة ، أو لحمل المخاطب على المطلوب ، بأن يكون المخاطب ممّن لا يحبّ أن يكذّب الطالب ، أو لنحو ذلك.
تنبيه : ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر ، بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر ، يظهر ذلك بأدنى تأمّل ، فليعتبره الناظر.
القول في الوصل والفصل
الوصل عطف بعض الجمل على بعض ، والفصل تركه.
وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فنّ منها عظيم الخطر ، صعب المسلك ، دقيق المأخذ ، لا يعرفه على وجهه ، ولا يحيط علما بكنه : إلا من أوتي فهم كلام العرب طبعا سليما ، ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ، ولهذا