وكذلك ينزّل غير المنكر منزلة المنكر ؛ إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار ، كقوله :
جاء شقيق عارضا رمحه |
|
إنّ بني عمّك فيهم رماح (١) |
فإن مجيئه هكذا ، مدلّا بشجاعته ، قد وضع رمحه عارضا ؛ دليل على إعجاب شديد منه ، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد ، كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح.
وكذلك ينزّل المنكر منزلة غير المنكر ، إذا كان معه ما إن تأمّله ارتدع عن الإنكار ، كما يقال لمنكر الإسلام : «الإسلام حق» وعليه قوله تعالى في حق القرآن : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : الآية ٢].
ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦) [المؤمنون : الآيتان ١٥ ، ١٦] أكد إثبات الموت تأكيدين ـ وإن كان مما لا ينكر ـ لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت ؛ لتماديهم في الغفلة ، والإعراض عن العمل لما بعده ، ولهذا قيل : «ميّتون» دون «تموتون» كما سيأتي الفرق بينهما ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا ـ وإن كان مما ينكر ـ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر. بل إما أن يعترف به ، أو يتردد فيه ؛ فنزّل المخاطبون منزلة المترددين ، تنبيها لهم على ظهور أدلته ، وحثّا على النظر فيها ، ولهذا جاء «تبعثون» على الأصل.
هذا كله اعتبارات الإثبات ، وقس عليه اعتبارات النفي ، كقولك :
«ليس زيد ، أو ما زيد ؛ منطلقا ، أو بمنطلق» و «والله ليس زيد ، أو ما زيد ، منطلقا ، أو بمنطلق» و «ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد» ، و «ما كان زيد ينطلق» و «ما كان زيد لينطلق» و «لا ينطلق زيد» و «لن ينطلق زيد» و «والله ما ينطلق ، أو ما إن ينطلق ؛ زيد».
فصل
الحقيقة العقلية والمجاز العقلي
الإسناد منه حقيقة عقلية ، ومنه مجاز عقلي.
أما الحقيقة فهي إسناد الفعل ، أو معناه ، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر
__________________
(١) البيت من السريع ، وهو لحجل بن نضلة الباهلي في دلائل الإعجاز ص ٣٠٤ ، ٣١٢ ، والمصباح لبدر الدين بن مالك (٦).