واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب ، فإنّ من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس ، وحظا من القبول ، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.
واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل ، ولأن تعرف العلة في بعض الصور ، فتجعله شاهدا في غيره ، أحرى من أن تسدّ باب المعرفة على نفسك ، وتعوّدها الكسل والهوينا.
قال الجاحظ : وكلام كثير جرى على ألسنة الناس ، وله مضرة شديدة وثمرة مرّة ، فمن أضر ذلك قولهم : «لم يدع الأول للآخر شيئا» فلو أن علماء كل عصر ـ مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم ـ تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا.
القول في أحوال الإسناد الخبري
من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم كقولك : «زيد قائم» لمن لا يعلم أنه قائم ، ويسمى هذا فائدة الخبر ، وإما كون المخبر عالما بالحكم ، كقولك لمن زيد عنده ، ولا يعلم أنك تعلم ذلك : «زيد عندك» ويسمى هذا لازم فائدة الخبر.
قال السكاكي : والأولى بدون هذه تمتنع ، وهذه بدون الأولى لا تمتنع ، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة ، أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه ، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول ، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ، ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه ؛ لجواز حصول الأول قبل الثاني ، وامتناع حصول الحاصل.
وقد ينزّل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم ؛ فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.
قال السكاكي : وإن شئت فعليك بكلام رب العزة : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : الآية ١٠٢] كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسميّ ، وآخره ينفيه عنهم ، حيث لم يعملوا بعلمهم؟! ونظيره في النفي والإثبات : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : الآية ١٧] ، وقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢) [التوبة : الآية ١٢].