أحدها : أن تلي نكرة ، فتكون صفة لها ، كما في هذه الآية. وعليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : «الناس كإبل مائة لا تجد ، فيها راحلة» (١).
والثاني : أن تلي معرفة هي اسم موصول ، فتكون صلة له ، كقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : الآية ١٧] الآية.
والثالث : أن تلي معرفة ليست باسم موصول ، فتقع استئنافا ، كقوله عز وعلا : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : الآية ٤١].
ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه : قول ابن المعتز :
كأنّا وضوء الصبح يستعجل الدّجى |
|
نطير غرابا ذا قوادم جون (٢) |
شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان ، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضاء لأن تلك الفرق من الظّلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض.
وتمام التدقيق في هذا التشبيه : أن جعل ضوء الصبح ـ لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل ـ كأنه يحفز الدّجى ، ويستعجلها ، ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء ، راعاه آخرا ، حيث قال : «نطير غرابا» ولم يقل : «غراب يطير» ونحوه ؛ لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان ، فأزعج ، وأطير منه ، أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل ، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه ، وأدعى له أن يستمر على الطيران حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون. بخلاف ما إذا طار عن اختيار ، فإنه حينئذ يجوز أن لا يسرع في طيرانه وأن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول ، وكذا قول أبي نواس في صفة منقار البازي :
كعطفة الجيم بكفّ أعسرا (٣)
غير خاف أن الجيم خطان ، أولهما : الذي هو مبدؤه وهو الأعلى ، والثاني الذي يذهب إلى اليسار ، وإذا لم يوصل بها فلها تعريق والمنقار إنما يشبه الخط الأعلى فقط فلهذا قال : «كعطفة الجيم» ولم يقل : «كالجيم» ثم دقق بأن جعلها بكفّ أعسر لأن جيم
__________________
(١) الحديث أخرجه ابن ماجة حديث ٣٩٩٠ ، وعبد الرزاق في المصنف ٢٠٤٤٧ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٩ / ٢٣١.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في أسرار البلاغة ص ١٥٤.
(٣) قبله :
في هامة غلباء تهدي منسرا
والرجز في أسرار البلاغة ص ١٥٥.