والثاني : ندور حضور المشبه به في الذهن : إما عند حضور المشبه ؛ لبعد المناسبة بينهما ، كما تقدم من تشبيه البنفسج بنار الكبريت ، وإما مطلقا ؛ لكونه وهميّا ، أو مركبا خياليا ، أو مركبا عقليا ، كما مضى من تشبيه نصال السّهام بأنياب الأغوال ، وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد ، وتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا. فإن كلّا سبب لندرة حضور المشبه به في الذهن ، أو لقلة تكرّره على الحسّ ، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل ، فإنه ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل ، فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين.
والمراد بالتفصيل : أن ينظر في أكثر من وصف واحد لشيء واحد أو أكثر ، وذلك يقع على وجوه كثيرة ، والأغلب الأعرف منها وجهان :
أحدهما : أن تأخذ بعضا وتدع بعضا ، كما فعل امرؤ القيس في قوله :
حملت ردينيّا كأن سنانه |
|
سنا لهب لم يتّصل بدخان (١) |
ففصل السّنا عن الدخان ، وأثبته مفردا.
والثاني : أن يعتبر الجميع ، كما فعل الآخر في قوله :
وقد لاح في الصبح الثّريّا كما ترى |
|
كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا (٢) |
فإنه اعتبر من الأنجم الشكل ، والمقدار ، واللون ، واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب ، ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنوّر من الملاحيّة.
وكلما كان التركيب من أمور أكثر ؛ كان التشبيه أبعد وأبلغ ، كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : الآية ٢٤] فإنها عشر جمل إذا فصّلّت ، وهي وإن دخل بعضها في بعض ، حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة ؛ فإن ذلك لا يمنع أن تشير إليها واحدة واحدة. ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض ، حتى لو حذف منها جملة أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه.
ومن تمام القول في هذه الآية ونحوها أن الجملة إذا وقعت في جانب المشبه به تكون على وجوه :
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان امرىء القيس ص ٤٧٧ ، والعمدة ٢ / ٥٢ ، وكتاب الصناعتين ص ٢٤٧ ، وأسرار البلاغة ص ١٨٩.
(٢) تقدم البيت مع تخريجه قبل قليل.