تزجي أغنّ كأن إبرة روقه (١)
رحمته وقلت : «قد وقع ، ما عساه يقول وهو أعرابيّ جلف جاف؟» فلما قال :
قلم أصاب من الدّواة مدادها (٢)
استحالت الرحمة حسدا ، فهل كانت رحمته في الأولى والحسد في الثانية ، إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه ، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف؟
وذكر الشيخ عبد القاهر رحمه الله للاستطراف في تشبيه البنفسج بنار الكبريت وجها آخر ، وهو أنه أراك شبها لنبات غضّ يرفّ وأوراق رطبة ؛ من لهب نار في جسم مستول عليه اليبس ، ومبنى الطّباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له ؛ كانت صبابة النفوس به أكثر ، وكان الشغف به أجدر.
وأما الثاني فيكون في الغالب إيهام أن المشبه به أتمّ من المشبه في وجه الشبه وذلك في التشبيه المقلوب ، وهو أن يكون بالعكس ، كقول محمد بن وهيب : [الحميري]
وبدا الصّباح كأن غرّته |
|
وجه الخليفة حين يمتدح (٣) |
فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتمّ من الصباح في الوضوح والضياء.
واعلم أن هذا وإن كان في الظاهر يشبه قولهم : «لا أدري وجهه أنور أم الصبح؟ وغرّته أضوأ أم البدر؟» وقولهم إذا أفرطوا : «نور الصباح يخفى في ضوء وجهه» أو «نور الشمس مسروق من نور جبينه» ونحو ذلك من وجوه المبالغة ؛ فإن في الأول خلابة وشيئا من السحر ليس في الثانية ، وهو أنه كأنه يستكثر للصباح أن يشبّهه بوجه الخليفة ، ويوهم أنه احتشد له واجتهد في تشبيه يفخّم به أمره ؛ فيوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر ، ويفيدكها من غير أن يظهر ادّعاؤه لها ؛ لأنه وضع كرمه وضع من يقيس على أصل متّفق عليه ، لا يشفق من خلاف مخالف وتهكم متهكم ، والمعاني إذا وردت على النفس
__________________
(١) انظر الحاشية التالية.
(٢) هو عجز البيت ، والبيت من الكامل وهو في ديوان عدي بن الرقاع ص ٣٥ ، ولسان العرب (بلد) ، (قرش) ، (زجا) ، وأساس البلاغة (أبر) ، وطبقات فحول الشعراء ص ٧٠٧ ، وتاج العروس (قرش) ، (زجا) ، والطرائف الأدبية ص ٨٨ ، والأغاني ٩ / ٣٥٧.
(٣) البيت من الكامل ، وهو لمحمد بن وهيب في الإشارات والتنبيهات ص ١٧١ ، ومعجم الشعراء ص ٣٥٨.