ولمّا نزل «لا تتّخذوا» تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم ، فلمّا راى الله منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد ، وطول التمنّي للسبب الّذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة ، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنّوه ، فقال :
(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) بتوفيق الإسلام.
وذلك حين يسّر فتح مكّة أظفرهم الله بأمنيّتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم التحابب والتصافي. و «عسى» وعد من الله على عادات الملوك ، حيث يقولون في بعض الحوائج : عسى أو لعلّ ، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين.
وروي : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تزوّج أمّ حبيبة ، فعند ذلك لانت عريكة أبي سفيان ، واسترخت شكيمته في العداوة. وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة ، فتنصّر وأرادها على النصرانيّة ، فأبت وصبرت على دينها. ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى النجاشي ، فخطبها عليهالسلام ، وساق عنه إليها المهر أربعمائة دينار. وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يقدع (١) أنفه.
(وَاللهُ قَدِيرٌ) على تقليب القلوب من العداوة إلى المحبّة ، وتسهيل أسباب المودّة (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوب عباده (رَحِيمٌ) بهم إذا تابوا وأسلموا. أو غفور رحيم لما فرط منكم من موالاتهم من قبل ، ولما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي : لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، لأنّ قوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من «الّذين».
(وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) وتفضوا إليهم بالقسط ، أي : العدل. والمعنى : لا ينهاكم الله
__________________
(١) أي : لا يضرب أنفه ولا يكفّ.