محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

وعلى الجملة : فكل من العقل والشرع ألزم المكلف بالتخلص عن الدار المغصوبة والخروج عنها في أوّل زمن الامكان ورفع الاضطرار ، فلو بقي بعد ذلك ولو آناً ما فقد ارتكب محرّماً ، لفرض أنّه تصرّف فيها بغير اضطرار ، ومن المعلوم أنّ تصرفه فيها بدونه محرّم على الفرض ، هذا حكم التخلص والخروج.

ومن هنا يظهر أنّه لا يجوز الاتيان بالصلاة ، لأنّه يوجب زيادة البقاء فيها والتصرف بلا موجبٍ ومقتض ، ومن الواضح أنّه غير جائز. وأمّا إذا فرض أنّه عصى وأتى بالصلاة فيها فهل يحكم بصحة صلاته أم لا ، فهو مبني على النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فعلى القول بالجواز يحكم بصحتها ، لفرض أنّه على هذا القول يكون المجمع متعدداً وجوداً وماهيةً ، فيكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه خارجاً ، ومجرد ملازمته معه في الوجود الخارجي لا يمنع عن انطباق المأمور به عليه وصحته ، كما تقدّم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح ، وعلى القول بالامتناع يحكم ببطلانها ، لفرض أنّه على هذا يكون مصداق المأمور به متحداً مع المنهي عنه خارجاً ، ومعه ـ أي مع الاتحاد ـ لا يمكن الحكم بالصحة أبداً ، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب كما سبق ذلك بصورة مفصّلة ، هذا حكم الصلاة في الدار المغصوبة بعد رفع الاضطرار.

وأمّا الصلاة فيها قبل رفع الاضطرار ، فعلى وجهة نظرنا لا إشكال في جواز الاتيان بها وعدم وجوب تأخيرها لأن يؤتى بها في خارج الدار ، والوجه في ذلك واضح ، وهو ما ذكرناه من أنّ الصلاة مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على مقدار تقتضيه الضرورة ، ومن هنا قلنا إنّ وظيفة غير المتمكن من التخلص عن الغصب هي الصلاة مع الركوع والسجود ، وليست وظيفته الصلاة مع الايماء بدلاً عنهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : المفروض جواز

٦١

تصرف المتوسط في الدار المغصوبة بغير اختياره بمقدار تقتضيه الضرورة ، لفرض ارتفاع حرمته من ناحية الاضطرار أو نحوه. ومن ناحية ثالثة : قد تقدم أنّه لا فرق بين أن يكون المكلف فيها على هيئة واحدة ووضع فارد أو على هيئات متعددة وأوضاع مختلفة ، وليس كون المكلف على هيئات متعددة تصرّفاً زائداً بالاضافة إلى كونه على هيئة واحدة ، كما سبق بشكل واضح.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي جواز الصلاة فيها مع الركوع والسجود ، وعدم وجوب تأخيرها إلى أن يرتفع الاضطرار ويأتي بها في خارج الدار.

وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره فلا تجوز الصلاة فيها مع التمكن من الاتيان بها في خارج الدار ، والوجه فيه ما عرفت (١) من أنّ الركوع عنده من التصرف الزائد بالاضافة إلى مقدار الضرورة فلا يجوز ، فإذن لا محالة وجب الاقتصار على خصوص الايماء في الصلاة وترك الركوع والسجود ، ولكن بما أنّ المكلف متمكن من الصلاة معهما في غير المكان المغصوب كما هو المفروض ، فلا تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الايماء فيه ، ضرورة أنّها وظيفة المضطر وغير المتمكن من الصلاة في تمام الوقت ، والمفروض في المقام أنّ المكلف متمكن من الصلاة في الوقت مع الركوع والسجود ، ومن الواضح جداً أنّه مع هذا لا تنتقل وظيفته إلى بدلها الاضطراري وهو الصلاة مع الايماء ، ضرورة أنّها غير مشروعة في حق المتمكن من الاتيان بصلاة المختار.

نعم ، لو كان مجرد الاضطرار كافياً في ذلك ولو لم يكن مستوعباً لتمام الوقت لكان الاتيان بها مجزئاً لا محالة ، إلاّ أنّ ذلك باطل قطعاً ، ضرورة أنّ الاضطرار

__________________

(١) في ص ٥٥.

٦٢

الرافع للتكليف إنّما يكون رافعاً فيما إذا كان مستوعباً لتمام الوقت ليصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك الواجب لينتقل الأمر إلى بدله ، وأمّا إذا كان الاضطرار إلى ترك الواجب في بعض الوقت دون بعضه الآخر فلا يصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك الواجب. نعم ، يصدق عليه أنّه مضطر إلى ترك بعض أفراده ، لفرض أنّ الواجب هو الجامع بين الحدّين ، والمفروض أنّ الاضطرار لم يتعلق بتركه ، وما تعلق به الاضطرار لا يكون واجباً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الثمرة التي تظهر بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره نتيجة الاختلاف في نقطة واحدة ، وهي أنّ الركوع والسجود على وجهة نظره قدس‌سره من التصرف الزائد ، وعلى وجهة نظرنا ليسا من التصرف الزائد.

أمّا المورد الثاني : وهو ما إذا لم يتمكن المكلف من الصلاة في خارج الدار لضيق الوقت ، فلا إشكال في وجوب الصلاة عليه حال الخروج ، لفرض أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن بما أنّه كان في مقام التخلص عن الغصب فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على خصوص الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ولا مسوّغ له ، ولأجل ذلك تنتقل الوظيفة من صلاة المختار إلى صلاة المضطر وهي الصلاة مع الايماء والاشارة.

وإن شئت فقل : إنّه لا يجوز للمكلف في هذا الحال الركوع والسجود. أمّا عدم جواز السجود في هذا الحال فواضح ، وذلك لما تقدّم من أنّه متحد مع الغصب خارجاً باعتبار أنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهومه ، والمفروض أنّه نحو تصرّف فيها ، فإذن يتحد المأمور به مع المنهي عنه ، ومع الاتحاد لا يمكن الحكم بصحته ، لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للمأمور به

٦٣

وعليه فلا محالة تكون وظيفته الايماء دون السجدة.

وأمّا الركوع ، فهو وإن لم يكن بنفسه تصرفاً في مال الغير ، لما عرفت من أنّه عبارة عن هيئة حاصلة للمصلي من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج ، إلاّ أنّه مستلزم للبقاء فيها وهو تصرف زائد على مقدار الضرورة ، فإذن تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة مع الركوع وبين حرمة التصرف في مال الغير ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة ، ولكن بما أنّ وجوب الصلاة مع الركوع خاصة مشروط بالقدرة شرعاً ، لما تقدّم في بحث الضد (١) من أنّ الأركان بعرضها العريض وإن كانت غير مشروطة بالقدرة الشرعية ، إلاّ أنّ كل مرتبة منها مشروطة بها ، فعليه تتقدّم حرمة التصرف في مال الغير على وجوبه من ناحية ما ذكرناه من أنّه إذا وقعت المزاحمة بين ما هو المشروط بالقدرة شرعاً وما هو المشروط بالقدرة عقلاً ، فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً ، على تفصيل تقدّم في مسألة الضد.

فالنتيجة هي وجوب الاقتصار على الايماء في الصلاة للركوع والسجود.

نعم ، لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الصلاة من دون استلزامه للتصرف الزائد لوجب ذلك ، كما إذا فرض أنّ خروجه من الأرض المغصوبة بالسيارة أو الطيارة أو السفينة أو ما شاكل ذلك ، فانّ الركوع والسجود في مثل ذلك لا يستلزمان التصرف الزائد ، كما هو واضح ، فإذن تتعين الصلاة بهما ولا يجوز الاقتصار على الايماء ، لفرض أنّه بدل اضطراري عنهما ومع تمكن المكلف من الاتيان بهما لا تصل النوبة إلى بدلهما الاضطراري ، كما هو واضح.

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ١٣٣.

٦٤

نتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط :

الاولى : أنّه لا إشكال في سقوط الحرمة واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ، وليس حاله حال الجهل الرافع للتكليف ظاهراً لا واقعاً.

الثانية : أنّه لا شبهة في صحة العبادة فيما إذا لم تكن متحدةً مع الفرد المحرّم المضطر إليه ، لما عرفت من أنّ العبادة صحيحة على هذا الفرض فيما إذا كانت الحرمة باقية بحالها فضلاً عما إذا سقطت.

الثالثة : أنّ الظاهر صحة العبادة فيما إذا فرض كونها متحدةً مع المحرّم المضطر إليه ، وذلك لما عرفت من أنّ المانع عن صحتها إنّما هو حرمتها ، فإذا فرض أنّها سقطت بالاضطرار أو نحوه واقعاً فلا مانع عندئذ من صحتها أصلاً كما تقدّم.

الرابعة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ دلالة النهي على حرمة شيء في عرض دلالته على تقييد المأمور به بعدمه ، وليست متقدمةً عليها ، قد تقدّم فساده بشكل واضح ، وقلنا هناك إنّ حرمة شيء وعدم وجوبه وإن كانا في رتبة واحدة بحسب مقام الثبوت والواقع ، لعدم ملاكٍ لتقدم أحدهما على الآخر ، إلاّ أنّهما بحسب مقام الاثبات والدلالة ليسا كذلك ، فانّ دلالة النهي على الحرمة في مرتبة متقدمة على دلالته على عدم الوجوب والتقييد ، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية.

الخامسة : أنّه تظهر الثمرة بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره في جواز التمسك بالاطلاق وعدمه ، فانّه بناءً على وجهة نظرنا بما أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة فلا محالة تسقط بسقوط دلالته عليها ، ومن المعلوم أنّه مع سقوط التقييد لا مانع

٦٥

من التمسك بالاطلاق. وبناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره بما أنّ دلالته على التقييد وعدم الوجوب في عرض دلالته على الحرمة ، فلا تسقط بسقوط تلك الدلالة ، ومع عدم السقوط لا يمكن التمسك بالاطلاق.

السادسة : قد تقدّم أنّ رفع الحكم من ناحية الاضطرار بما أنّه يكون للامتنان ، فيدل على ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا معنى للامتنان أصلاً ، وهذا بخلاف رفع الحكم في غير موارد الامتنان ، فانّه لا يدل على ثبوت مقتضيه ، ضرورة أنّه كما يمكن أن يكون من جهة المانع مع ثبوت المقتضي له ، يمكن أن يكون من جهة عدم المقتضي له ، فلا دليل على أنّه من قبيل الأوّل ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد سبق أنّ هذا الملاك بما أنّه غير مؤثر في المبغوضية والحرمة فلا يمنع عن صحة العبادة وقصد التقرب بها.

السابعة : أنّ الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب في صورة الاضطرار إلى التصرف فيه صحيح مطلقاً ، أي بلا فرق بين وجود المندوحة وعدمه كما سبق.

الثامنة : أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لا تسقط عن المتوسط فيها بغير اختياره على القاعدة على وجهة نظرنا ، لما عرفت من أنّ الصلاة فيها مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على الكون فيها بدون الصلاة ، وعليه فلا موجب لسقوطها أصلاً ، كما أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوطها عنه على وجهة نظر جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره ولكنّ القاعدة الثانوية تقتضي وجوب الاتيان بالباقي من الأجزاء والشرائط ، والوجه فيه : ما تقدّم من أنّ الركوع والسجود بنظرهم من التصرف الزائد عرفاً فلا يجوز ، فإذن لا محالة يسقطان عنه ، ومع سقوطهما لا محالة يسقط الأمر عن الصلاة ، ولكن دلّ دليل آخر على وجوب الاتيان بها مع الايماء بدلاً عنهما.

٦٦

التاسعة : أنّ كل جسم يشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ، ولا يختلف ذلك ـ أي مقدار تحيزه وشغله المكان ـ باختلاف هيئاته وأوضاعه عقلاً وعرفاً ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث إنّه قد فصّل بين نظر العرف والعقل ، فذهب إلى أنّ اختلاف الجسم باختلاف الهيئات ليس تصرفاً زائداً بالدقّة العقلية ، ولكنّه تصرف زائد بالنظر العرفي. ولكن قد عرفت فساده بشكل واضح.

العاشرة : أنّ الصلاة في حال الخروج لا بدّ فيها من الاقتصار على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، لفرض أنّهما مستلزمان للتصرف الزائد على قدر الضرورة ، إلاّفيما إذا فرض أنّهما لا يستلزمان له ، كما إذا كان خروجه بالسيارة أو نحوها. ومن هنا تكون مشروعية هذه الصلاة أعني الصلاة مع الايماء منوطة بعدم تمكن المكلف من إدراك الصلاة في الوقت في خارج الأرض ، وإلاّ فلا تكون مشروعة ، ضرورة أنّ المكلف مع التمكن من الاتيان بصلاة المختار لا يسوغ له الاتيان بصلاة المضطر ، وكذا منوطة بعدم تمكنه من الصلاة في الأرض المغصوبة.

وذلك أمّا على وجهة نظرنا ، فلما عرفت من أنّه متمكن فيها من الصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين من دون استلزامهما للتصرف الزائد ، ومعه لا محالة تكون وظيفته هي صلاة المختار دون صلاة المضطر. نعم ، لو أخّرها ولم يأت بها إلى زمان خروجه عنها فوجب عليه الاتيان بصلاة المضطر ، وهي الصلاة مع الايماء ، لفرض أنّها لا تسقط بحال ، ولكنه عصى في تأخيره وتفويت الواجب عليه ، إلاّ إذا فرض أنّ تأخيره كان لعذر شرعي.

وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره فلأجل أنّ الصلاة حال

٦٧

الخروج تستلزم تفويت الاستقرار المعتبر فيها ، ومن المعلوم أنّ المكلف إذا تمكن من الصلاة مع الاستقرار ، فلو صلى بدونه بطلت لا محالة ، وعليه فلا يجوز له تأخيرها إلى زمان الخروج ، لاستلزام ذلك تفويت الاستقرار باختياره وهو غير جائز ، إلاّ إذا كان التأخير مستنداً إلى عذر شرعي. وعلى الجملة : فالصلاة في حال الخروج إذا كانت مستلزمة لتفويت شرط من شرائطها كالاستقرار أو الاستقبال دون الصلاة في الدار فيجب إتيانها في الدار.

الحادية عشرة : قد ظهر مما تقدّم أنّه بناءً على وجهة نظرنا تصحّ الصلاة من المتوسط فيها بغير اختياره مطلقاً ـ أي بلا فرق بين كون المكلف متمكناً من الصلاة في الوقت في خارج الدار ، وبين كونه غير متمكن منها كذلك ـ أمّا على الثاني فواضح ، وأمّا على الأوّل فلفرض أنّه متمكن من الاتيان بالصلاة التامة الأجزاء والشرائط ، ومعه لا موجب للتأخير والاتيان بها في خارج الدار.

نعم ، بناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره وجب التأخير في هذا الفرض ، لأنّ المكلف على هذه النظرية لا يتمكن من صلاة المختار في الدار ، لفرض أنّ الركوع والسجود تصرّف زائد عليها ، والانتقال إلى صلاة المضطر مع التمكن من صلاة المختار لا دليل عليه ، إلى هنا انتهى الكلام في المقام الأوّل.

[ الاضطرار بسوء الاختيار ]

وأمّا الموضع الثاني ، وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، فيقع الكلام فيه في موردين :

الأوّل : في حكم الخروج في حدّ نفسه.

الثاني : في حكم الصلاة الواقعة حاله ، أي حال الخروج.

٦٨

أمّا المورد الأوّل : فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال :

الأوّل : أنّ الخروج حرام بالفعل.

الثاني : أنّه واجب وحرام معاً كذلك. أمّا أنّه واجب فمن ناحية أنّه إمّا أن يكون مقدمةً للتخلص عن الحرام الذي هو واجب عقلاً وشرعاً ومقدمة الواجب واجبة ، وإمّا أن يكون من ناحية أنّه مصداق له ، أي للتخلص الواجب ، وأمّا أنّه حرام فمن ناحية أنّه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرّم ، وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي (١) ، ويظهر اختياره من المحقق القمي قدس‌سره أيضاً (٢) ، وهذا القول يرتكز على أمرين : الأوّل : دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار عقاباً وخطاباً. الثاني : الالتزام بوجوب الخروج ، إمّا لأجل أنّه مقدمة للتخلص الواجب ، ومقدمة الواجب واجبة ، وإمّا لأجل أنّه من مصاديقه وأفراده.

الثالث : أنّه واجب فعلاً وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ، ولكن يجري عليه حكم المعصية ، واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول قدس‌سره (٣).

الرابع : أنّه واجب فحسب ولا يكون محرّماً ، لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق الساقط ، واختار هذا القول شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٤)

__________________

(١) البرهان في اصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، المنخول : ١٢٩.

(٢) قوانين الاصول ١ : ١٥٢.

(٣) الفصول : ١٣٨.

(٤) مطارح الأنظار : ١٥٣.

٦٩

ووافقه فيه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١).

الخامس : أنّه لا يكون فعلاً محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية ، ولكنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، ويجري عليه حكم المعصية. نعم ، هو واجب عقلاً من ناحية أنّه أقل محذورين وأخف قبيحين ، واختار هذا القول المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) فهذه هي الأقوال في المسألة.

ولنأخذ بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال :

أمّا القول الأوّل : فهو واضح الفساد ، وذلك لاستلزام هذا القول التكليف بالمحال ، بيان ذلك : هو أنّ المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : المفروض أنّ البقاء فيها محرّم ، فلو حرم الخروج أيضاً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، فإذن لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة.

وأمّا القول الثاني : فهو أوضح فساداً من الأوّل ، وذلك ضرورة استحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً حتّى على مذهب الأشعري الذي يرى جواز التكليف بالمحال ، فان نفس هذا التكليف والجعل محال ، لا أنّه من التكليف بالمحال. على أنّ وجوبه إمّا أن يكون مبنياً على القول بوجوب المقدمة بناءً على كون الخروج مقدمةً للتخلص الواجب وردّ المال إلى مالكه ، وإمّا أن يكون مبنياً على كونه مصداقاً للتخلص ولردّ المال إلى مالكه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٦.

(٢) كفاية الاصول : ١٦٨.

٧٠

أمّا الأوّل فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب أنّه لا دليل على وجوب المقدمة شرعاً. وأمّا الثاني فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى أنّ الخروج ليس مصداقاً لقاعدة ردّ المال إلى مالكه ، فإذن لا دليل على كون الخروج واجباً. وأمّا حرمته فهي مبنية على قاعدة « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً » ، ولكن سيأتي (١) بيان أنّ هذه القاعدة تنافي الخطاب ، ضرورة أنّه لا يمكن توجيه التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستنداً إلى سوء اختياره ، لكونه لغواً محضاً ، وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل ، وكيف كان فهذا القول غير معقول ، وعلى تقدير كونه معقولاً فلا دليل عليه كما عرفت.

وأمّا القول الثالث : وهو كون الخروج واجباً فعلاً ومحرّماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، فهو وإن كان له بحسب الظاهر صورة معقولة ، ببيان أنّ الخروج بما أنّه تصرّف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من أن يعاقب عليه ، لفرض أنّه مبغوض للمولى وإن كان النهي عنه فعلاً غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال ، وبما أنّه مصداق للتخلية ولردّ المال إلى مالكه فلا مانع من كونه واجباً.

فالنتيجة : هي أنّ الخروج واجب فعلاً ومنهي عنه بالنهي السابق ، إلاّ أنّه بحسب الواقع والدقّة العقلية ملحق بالقولين الأوّلين في الفساد ، والوجه في ذلك : هو أنّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد محال ، وإن كان زمان تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به ، فان ملاك استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا عبرة بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده أصلاً ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون شيء واحد

__________________

(١) في ص ٨٨ ، ٩٣ ، وتقدّم أيضاً في المجلد الثاني ص ١٨٥.

٧١

في زمان واحد متعلقاً للايجاب والتحريم معاً ، وإن فرض أنّ زمان الايجاب غير زمان التحريم ، والسر في ذلك واضح ، وهو أنّ الفعل الواحد في زمان واحد إمّا أن يكون مشتملاً على مصلحة ملزمة ، وإمّا أن يكون مشتملاً على مفسدة كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بوجوبه ، وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بحرمته ولا يعقل إيجابه وتحريمه معاً ، كما هو واضح.

تلخّص : أنّ العبرة إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب ، فإن كان واحداً يستحيل تعلق الأمر والنهي به ، وإن كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان تعلق الآخر ، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلقهما به وإن كان زمان تعلقهما واحداً كما إذا أمر المولى يوم الخميس باكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن إكرامه يوم السبت ، فانّه لا محذور فيه أبداً.

نعم ، يمكن للمولى العرفي أن يأمر بشيء وينهى عنه في زمان آخر اشتباهاً أو بتخيل أنّ فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثمّ بان أنّه لا مصلحة بل فيه مفسدة مقتضية للتحريم ، إلاّ أنّه لا أثر في مثل ذلك لأحد الحكمين أصلاً ، بل هو صدر اشتباهاً وغفلةً لا حقيقةً وواقعاً.

وبكلمة اخرى : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الغرض من الأمر بشيء أو النهي عنه إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال ، ومن الواضح جداً أنّ الداعي إنّما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال في ظرفه ، وأمّا إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي ومع عدم حصوله يكون الأمر أو النهي لغواً محضاً فلا يترتب عليه أيّ أثر ، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل ، وعليه فلا يمكن أن يكون فعل واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضاً ، أعني ناحية المنتهى والامتثال.

٧٢

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ الخروج في مفروض الكلام إن كان مشتملاً على مفسدة امتنع تعلق الأمر به ، وإن كان مشتملاً على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو من الزمان السابق ، لفرض أنّ المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه ، ومعه يستحيل أن ينهى عنه في ذلك الظرف ، وقد عرفت أنّ العبرة في استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، فإن كان واحداً يستحيل أن يكون متعلقاً للأمر والنهي معاً ، وإن كان زمان النهي سابقاً على زمان الأمر أو بالعكس ، لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلاً ، لفرض أنّه لا يرفع المحذور المزبور ، وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان واحد فضلاً عن زمانين ، لعدم التنافي بينهما عندئذ أصلاً ، لفرض أنّ الأمر تعلق به في زمانٍ والنهي تعلق به في زمان آخر ، ولا مانع من أن يكون شيء واحد في زمان محكوماً بحكم وفي زمان آخر محكوماً بحكم آخر غيره.

مثال الأوّل : ما إذا فرض أنّ المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة وأمر به في يوم الجمعة ، فانّه لا إشكال في استحالة ذلك ، ضرورة أنّ صوم يوم الجمعة لا يمكن أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً ، فانّه إن كان فيه ملاك الوجوب امتنع تعلق النهي به مطلقاً ، وإن كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.

ومثال الثاني : ما إذا أمر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك اليوم عن صوم يوم السبت ، فانّه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.

فالنتيجة : أنّ ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شيء واحد ، وإمكان اجتماعه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده ، ولا اعتبار بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً.

٧٣

وأمّا الأحكام الوضعية فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ حالها من هذه الناحية حال الأحكام التكليفية ، فكما أنّ المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده ، فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعية في شيء واحد وإمكانه ، هو وحدة زمان المعتبر وتعدده لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.

ومن هنا أشكل قدس‌سره على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم قدس‌سره وإليك نص ما أفاده : فلا وجه للقول بالكشف بمعنى تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الاجازة فيما بعد ، نعم بمعنى الحكم بعد الاجازة بتحقق مضمونه حقيقةً مما لا محيص عنه بحسب القواعد ، فلو أجاز المالك مثل الاجارة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها ، أو الزوج أو الزوجة عقد التمتع كذلك ، فيصح اعتبار الملكية حقيقةً للمستأجر والزوجية لهما في تمام المدة التي قد انقضى بعضها ، بل ولو انقضى تمامها لتحقق منشأ انتزاعها.

فإن قلت : كيف يصح هذا وكان قبل الاجازة ملكاً للمؤجر ولم يكن هناك زوجية ، إلاّ أن يكون مساوقاً لكون شيء بتمامه ملكاً لاثنين في زمان واحد ، واجتماع الزوجية وعدمها كذلك. قلت : لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار الملكية لأحدهما في زمان غير زمان اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان ، لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد لكل منهما في زمانين ، وكذا الزوجية وعدمها (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٨.

(٢) حاشية المكاسب : ٦١.

٧٤

وحاصل هذا الاشكال هو ما أفاده قدس‌سره من أنّ اختلاف زمان اعتبار الملكية للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملكٍ واحدٍ في زمان واحد ، فان اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الاخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد ، وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين ، فانّ حكم الحاكم في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض ، كما هو واضح.

وغير خفي أن ما افاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على المكاسب هو الصحيح ، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، والوجه في ذلك : هو أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك مع الأحكام التكليفية في ملاك الاستحالة والامكان ، وذلك لأنّ الأحكام التكليفية بما أنّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات اخرى ، فلا يمكن أن يكون فعل في زمان واحد محكوماً بحكمين مختلفين كالوجوب والحرمة مثلاً ، ولو كان تعلق أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر ، ضرورة أنّ هذا الفعل في هذا الزمان لا يخلو من أن يكون مبغوضاً للمولى أو أن يكون محبوباً له ولا ثالث لهما.

فعلى الأوّل يستحيل تعلق الأمر به ، وعلى الثاني يستحيل تعلق النهي به كما هو واضح ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية ، فانّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد النوعية في نفس جعلها واعتبارها ، وعليه فلا يمكن أن تقتضي مصلحة في زمان اعتبار شيء ملكاً لشخص ، ومصلحة اخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكاً لآخر. نعم ، لا مانع من أن تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان ، والمصلحة الاخرى في زمان آخر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه ،

٧٥

بأن يكون زمان الاعتبارين مختلفاً وزمان المعتبرين واحداً كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في مسألة الفضولي عند البحث عن كون الاجازة ناقلة أو كاشفة (١).

ونتيجته : هي أنّ القول بكون الاجازة ناقلة باطل ولا دليل عليه أصلاً ، كما أنّ الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل ، بل هو غير معقول ، وهو أن تكون الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الاجازة ، فالاجازة كاشفة عنها فحسب ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأوّل ، ومن المعلوم أنّ هذا بلا موجب ودليل ، بل الدليل قام على خلافه ، ضرورة أنّ هذا العقد لم يكن عقداً للمجيز إلاّبعد إجازته ورضاه به ، ليكون مشمولاً لأدلة الامضاء ، ومع هذا كيف يحكم الشارع بملكية المال له وانتقاله إليه قبل أن يرضى به ويجيزه ، ولأجل ذلك قد التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر ـ ولا بأس بتسميته بالكشف الانقلابي ـ وهو الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقياً على ملك مالكه الأصلي قبل الاجازة وإلى زمانها ، وأمّا إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضي به فهو ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل من حين العقد وزمانه.

والوجه في ذلك : هو أنّ مفهوم الاجازة مفهوم تعلّقي ، فكما أنّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي ، وفي المقام بما أنّ إجازة المالك متعلقة بالعقد السابق ، إذ المفروض أنّه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقداً آخر ، ومن المعلوم أنّ العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقةً ، ولا مانع من انتساب الأمر السابق وهو العقد بواسطة الأمر اللاّحق وهو الاجازة ، بداهة أنّ الانتساب والاضافة خفيف المؤونة فيحصل بأدنى شيء وأقل مناسبة ، ولذلك

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٤ : ١٤٤.

٧٦

أمثلة كثيرة في العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها ، فاذا صار هذا العقد عقداً له من حين صدوره ، فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين ، ومن هنا قلنا إنّ الكشف بذاك المعنى مطابق للقاعدة فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.

ولكن قد يتخيل أنّ الكشف بهذا المعنى غير ممكن ، وذلك لاستلزامه كون المال الواحد في زمانٍ ملكاً لشخصين ، لفرض أنّ هذا المال باق في ملك مالكه الأصلي إلى زمان الاجازة حقيقة ، ومعه كيف يعقل أن يصير هذا المال ملكاً للطرف الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الاجازة فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد في زمان فارد وهو غير معقول ، لأنّه من اجتماع الضدّين على شيء واحد.

وغير خفي أنّ هذا خيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع يقيناً ، والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية جميعاً امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ولذا قلنا إنّه لا مضادة بينها في أنفسها ، والمضادة بينها إنّما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.

وعلى هذا الضوء فبما أنّ في المقام زمان الاعتبار مختلف ، فان زمان اعتبار بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الاجازة ، وزمان اعتبار كونه ملكاً للآخر بعدها ، وإن كان زمان المعتبر فيهما واحداً ، فلا يلزم محذور التضاد ، فان محذور التضاد إنّما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضاً واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً كما في المقام فلا يلزم ذلك ، ضرورة أنّه لا مانع من أن تقتضي المصلحة الملزمة بعد الاجازة لاعتبار كون هذا المال ملكاً له من حين العقد ، فانّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق ، كأن يعتبر المولى ملكية مال لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبداً ، كما أنّه قابل للتعلق

٧٧

بأمر لاحق ، كما في باب الوصية أو نحوها.

ومن هنا قلنا إنّ التعليق في باب العقود أمر معقول في نفسه ، بل هو واقع كما في باب الوصية ، فانّ الموصي حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقاً عليه ، والشارع أمضاه كذلك ، وكذا في بيع الصرف ، فان إمضاء الشارع وحكمه بالملكية فيه معلّق على التقابض بين المتبايعين وإن كان حكمهما ـ أي المتبايعين ـ بالملكية غير معلّق على شيء.

فالنتيجة : أنّ التعليق في العقود أمر معقول ، ولذا كلّما دلّ الدليل على وقوعه نأخذ به ، وإنّما لا نأخذ به من ناحية الاجماع القائم على بطلانه.

وكيف كان ، فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة ، كما أنّه لا مانع من تعلقه بالملكية اللاّحقة ، بداهة أنّه لا واقع للملكية ولا وجود لها في الخارج على الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً في نفسه فهو واقع في المقام لا محالة ، لأنّ مقتضى تعلق الاجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا المال ملكاً له في الواقع من ذلك الزمان.

وبكلمة اخرى : أنّ اعتبار الملكية بما أنّه تابع للملاك القائم به فهو مرّة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن سابق كما فيما نحن فيه ، فانّ الاعتبار فعلي والمعتبر أمر سابق ، واخرى يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن متأخر كما في باب الوصية ، فانّ الاعتبار فيه فعلي والمعتبر أمر متأخر ، وثالثة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن فعلي ، فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلياً ، وهذا هو الغالب ، ومن المعلوم أنّ جميع هذه الصور ممكن ، غاية الأمر أنّ وقوع الصورة الاولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في مورد مطابقاً للقاعدة كما في المقام ، لأنّ اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي لمن انتقل إليه تابع لاجازة المالك ، وبما أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق كما هو مقتضى

٧٨

مفهومها ، فلا محالة يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من ذلك الزمان لا من حين الاجازة ، إذ من الواضح جداً أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة لاستناد ذلك العقد إلى المالك ، فلابدّ من أن يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من حين العقد ، فان أدلة الامضاء كقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ، ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الاجازة ، والمفروض أنّ ما تعلقت به الاجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي ، فإذن تدل الأدلة على صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذاك الزمان ، فيكون زمان الاعتبار فعلياً وهو زمان الاجازة وزمان المعتبر سابقاً وهو زمان صدور العقد ، وهذا معنى ما ذكرناه من أنّ الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة ولا مناص من الالتزام به.

وقد تحصّل من ذلك عدّة امور :

الأوّل : أنّ القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع ، ضرورة أنّه لا واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب ، فان انقلاب الواقع فرع أن يكون لها واقع ، ليقال إنّ الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه وهو محال ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلاً. فما توهم من أنّ المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا القول أيضاً ، فاسد جداً ولا أصل له أبداً ، كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم فلاحظ.

الثاني : أنّ الكشف بهذا المعنى أمر معقول في نفسه من ناحية ، ومطابق

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٧٩

للقاعدة من ناحية اخرى ، ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل ، فامكانه يكفي لوقوعه كما عرفت.

الثالث : أنّ ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعية في شيء واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه ، ولأجل ذلك يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعية مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع اثنين منها في شيء في زمان واحد. وأمّا في الأحكام التكليفية فلا أثر له أصلاً كما تقدّم. ومن هنا يظهر أنّ الصحيح هو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم لا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأمّا القول الرابع : وهو ما اختاره شيخنا الاستاذ (١) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره فملخصه على ما أفاده : هو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ، ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، ولأجل ذلك يكون الخروج واجباً شرعاً ولا يجري عليه حكم المعصية. نعم ، بناءً على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، فالصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم شرعي فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار وهو المعصية ، فله قدس‌سره دعاوٍ ثلاث :

الاولى : أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم من الأحكام الشرعية فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه ، بناءً على كون المقام من صغريات قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٦ وما بعدها.

٨٠