محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

إنّ حقيقة وجود العرض حقيقة متقوّمة بالموضوع الموجود خارجاً في مقابل وجود الجوهر حيث إنّه في ذاته غني عن الموضوع وقائم بذاته ، ولذا قيل في تعريف الجوهر بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في نفسه في قبال تعريف العرض بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في غيره يعني متقوّماً بغيره ، ومن هنا يكون وجوده المحمولي عين وجوده النعتي ، يعني أنّ في الخارج وجوداً واحداً والاختلاف بينهما إنّما هو في الاضافة باعتبار إضافته إلى نفسه محمولي ، وباعتبار إضافته إلى موضوعه نعتي.

وعلى هذا فإن كان الموضوع مركباً من جوهرين أو عرضين في محل واحد أو في محلّين ، أو عرض مع غير محلّه وموضوعه ففي جميع ذلك يكون العرض مأخوذاً في الموضوع بوجوده المحمولي وبمفاد كان التامة ، فانّ أخذه بمفاد كان الناقصة في هذه الموارد يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلاّ فالقضية في نفسها وبطبعها لا تقتضي أزيد من أخذه بمفاد كان التامة ، وأمّا إذا كان مركباً من العرض ومحلّه الخاص كالكرية المأخوذة في الماء والعدالة المأخوذة في زيد مثلاً وهكذا ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون المأخوذ فيه العرض بوجوده النعتي ، ضرورة أنّ الحكم إنّما يترتب على خصوص وجوده في ذلك المحل الخاص والموضوع المخصوص ، ومن المعلوم أنّه بعينه وجود نعتي ، لما عرفت آنفاً أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فوجود الكرية في ماء هو بعينه ثبوت الكرية له الذي يعبّر عنه باتصافه بالكرية وما هو مفاد كان الناقصة ، وكذا وجود العدالة في زيد مثلاً هو بنفسه ثبوت العدالة له المعبّر عنه باتصاف زيد بالعدالة الذي هو مفاد كان الناقصة ، فعلى الأوّل لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وعلى الثاني لا يمكن ذلك ، فانّ استصحاب وجود العدالة بمفاد كان التامة لا يثبت اتصاف زيد بها ، وكذا استصحاب وجود

٣٨١

الكرية كذلك لا يثبت اتصاف الماء بها إلاّ إذا كانت لهذا الاتصاف حالة سابقة ، وأمّا في غير هذه الصورة فلا مجال لجريان الاستصحاب وترتب آثار الوجود النعتي إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ، فالأثر المترتب على كرية ماء في الخارج أو عدالة زيد مثلاً إنّما يترتب عليها بضم الوجدان إلى الأصل فيما إذا علم باتصاف الماء بالكرية أو اتصاف زيد بالعدالة ليستصحب بقاؤه عند الشك فيه ، وأمّا مع عدم العلم بهذا الاتصاف فلا يمكن إحراز كريته أو عدالته باستصحاب وجود طبيعي الكرية أو العدالة بمفاد كان التامة ولو مع العلم بالملازمة بين وجودها في الخارج واتصافه بها ، حيث إنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

فالنتيجة : أنّ الموضوع إذا كان مركباً من العرض ومحلّه فلا محالة يكون المأخوذ فيه هو وجود العرض بمفاد كان الناقصة ، حيث إنّ ثبوته لموضوعه بعينه هو اتصافه به كما عرفت.

وأمّا إذا كان مركباً من عدم العرض ومحلّه فلا يلزم أن يكون العدم مأخوذاً فيه بمفاد ليس الناقصة حتى لا يمكن إحرازه بالأصل ، بل الظاهر هو أنّه مأخوذ فيه بمفاد ليس التامة ، والسبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين وجود العرض وعدمه ، حيث إنّ العرض في وجوده يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج لا في عدمه فانّه لا يحتاج إلى موضوع كذلك ، بداهة أنّ نقطة الافتقار إلى وجود الموضوع في عالم العين إنّما تكون من لوازم وجود العرض دون عدمه ، فكرية الماء مثلاً وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت لا محالة في الموضوع ، إلاّ أنّ عدم كريته ليس كذلك ، بل هو أمر أزلي كان متحققاً قبل تحقق موضوعه ، فاذا تحقق ماء في الخارج ولم يكن متصفاً بالكرية كان عدم

٣٨٢

كريته الذي يعبّر عنه بعدم اتصافه بالكرية باقياً على ما كان عليه في الأزل ، وكذا عدم عدالة زيد مثلاً ، فانّ عدالته وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت في الموضوع لا محالة إلاّ أنّ عدم عدالته ليس كذلك ، بل هو ثابت من الأزل سواء أكان موضوعها موجوداً أم لا ، فاذا وجد زيد في الخارج ولم يكن متصفاً بالعدالة فبطبيعة الحال كان عدم عدالته المعبّر عنه بعدم اتصافه بالعدالة باقياً على ما كان عليه في الأزل.

نعم ، قد يؤخذ في موضوع الحكم اتصافه بعدم شيء على نحو الموجبة المعدولة إلاّ أنّ هذا الاعتبار يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة ، حيث إنّ صِرف عدم شيء بما هو هو لم تؤخذ فيه أيّة خصوصية من الخصوصيات ، منها كونه صفةً ونعتاً لموضوع موجود في الخارج ، ضرورة أنّه بطلان محض ، فلا بدّ في أخذه نعتاً لموضوع محقق فيه من اعتبار خصوصية في ذلك الموضوع ملازمةٍ لأخذ العدم كذلك ، وتلك الخصوصية هي إضافته إليه ، ومن المعلوم أنّها خصوصية زائدة على أصل العدم وذاته.

وأمّا على تقدير تحقق هذا الاعتبار وأخذ العدم في الموضوع كذلك فلا يجري الاستصحاب في مورده لاحراز تمام الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، إلاّ إذا كان لاتصاف الموضوع به حالة سابقة ، فعندئذ لا مانع من جريان استصحاب بقائه ، وبضم الوجدان إليه يحرز الموضوع بكلا جزأيه.

وأمّا إذا لم تكن حالة سابقة له فلا يجري الاستصحاب فيه ، ولا يكفي في صحة جريانه العلم بعدم اتصافه ، أي اتصاف الموضوع بوجود ذلك الوصف قبل ذلك ، فانّه وإن كان يوجب صحة جريانه في عدم الاتصاف بالوصف الوجودي بمفاد ليس التامة ، ضرورة أنّه لا مانع منه في نفسه ، إلاّ أنّه لا يجدي

٣٨٣

في إحراز موضوع الحكم في محل الفرض ، لأنّ المفروض أنّ العدم المأخوذ فيه إنّما هو بمفاد ليس الناقصة والعدم النعتي دون العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة ، ومن المعلوم أنّ استصحاب العدم المحمولي وما هو بمفاد ليس التامة لا يثبت العدم النعتي وما هو بمفاد ليس الناقصة الذي له خصوصية وجودية زائدة ، وهي خصوصية إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ، إلاّعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة دون العدم المحمولي.

وعلى ضوء هذه النتيجة فالظاهر أنّ عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه هو العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة دون العدم النعتي وما هو مفاد ليس الناقصة ، فانّ أخذه فيه يحتاج إلى عناية ونصب قرينة وإلاّ فالقضية ظاهرة في أنّ المأخوذ هو الأوّل دون الثاني ، مثلاً الظاهر في مثل قضية : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم هو تقييد موضوعها بعدم الاتصاف بالفسق لا بالاتصاف بعدمه.

وعلى الجملة : إذا اخذ وجود عرض في محلّه موضوعاً لحكم شرعي فهو وإن كان لا بدّ من كونه مأخوذاً فيه على وجه النعتية والصفتية وما هو مفاد كان الناقصة ، إلاّ أنّ ذلك لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم وارتفاعه ، لوضوح أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يرتفع عند عدم اتصافه بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة من دون أن يتوقف ذلك على اتصاف الموضوع بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة ، وعليه فمفاد قضية : المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية وإن كان هو اعتبار صفة القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم الخاص ،

٣٨٤

وهو الحكم بتحيض المرأة القرشية بعد الخمسين ، إلاّ أنّ من الواضح أنّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية أي مفاد ليس الناقصة ، وإنّما يستدعي أخذه في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة ، أعني به مفاد ليس التامة ، فكل امرأة لا تكون متصفةً بالقرشية باقية تحت العام بعد خروج خصوص المرأة المتصفة بها ، لا أنّ الباقي تحته المرأة المتصفة بعدمها أي بعدم القرشية.

والنكتة في ذلك : ما عرفت من أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة في مقام الثبوت والاثبات دون أخذ العدم المحمولي ، فقضية : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم في نفسها ظاهرة في أنّ المأخوذ في موضوعها هو العدم المحمولي ، فانّ دلالتها على أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي تحتاج إلى رعاية نصب قرينة لكي تدل على اعتبار خصوصية زائدة على أخذ نفس العدم فيه ، كما أنّ أخذه في مقام الثبوت يحتاج إلى لحاظ عناية زائدة.

وعلى ذلك فاذا شك في كون المرأة الفلانية قرشية من جهة الشبهة الموضوعية دون الحكمية ، فلا مانع من التمسك باستصحاب عدمها الثابت لها قبل وجودها في عالم التكوين ، حيث إنّ في زمانٍ لم تكن المرأة موجودةً ولا اتصافها بالقرشية ، ثمّ وجدت المرأة في الخارج وشك في أنّ اتصافها بالقرشية هل وجد أيضاً ، فلا مانع فيه من استصحاب عدم اتصافها بها وأ نّه لم يوجد وبذلك يثبت موضوع العام فانّ كونها مرأة محرز بالوجدان وعدم اتصافها بالقرشية بالاستصحاب ، وبضمه إلى الوجدان يحرز الموضوع بكلا جزأيه ويترتب عليه أثره وهو أنّها تحيض إلى خمسين ولا تحيض إلى ستين.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ دعوى استلزام التخصيص بعنوان وجودي أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على وجه الصفتية والنعتية كما

٣٨٥

أصرّ على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، ولأجل ذلك منع عن جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، حيث قد عرفت بشكل موسّع أنّ التخصيص بعنوان وجودي سواء أكان بالاستثناء أو بمخصص منفصل إنّما يستلزم تقييد موضوع العام بعدم ذلك العنوان الوجودي بمفاد ليس التامة ، نظراً إلى أنّ أخذ عدم عرضٍ مّا في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلاّ أخذه كذلك ، فانّ تقييده به بمفاد ليس الناقصة يحتاج إلى عناية زائدة ثبوتاً وإثباتاً ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، ويترتب على جريانه فيها ثمرات في أبواب الفقه كما لا يخفى.

بقي هنا شيء : وهو أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من العبارة بقوله : لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلاّ ما شذ ممكناً (١) ما هو مراده ومقصوده؟ الظاهر أنّ مراده منها هو أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بما أنّه كان مقيداً بعدم عنوان الخاص ، فلا محالة يكون المنافي لحكمه هو وجود هذا العنوان الخاص دون غيره من العناوين ، فانّ أيّ عنوان كان وجودياً أو عدمياً فلا يكون اتصافه وتعنونه به مانعاً عن ثبوت حكمه له.

مثلاً في جملة : كل مرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية يكون المانع عن

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.

٣٨٦

ثبوت هذا الحكم العام لكل مرأة إنّما هو هذا العنوان الوجودي وهو عنوان القرشية دون غيره من العناوين ، إذ أيّ عنوان فرض إمكان اتصاف المرأة به سواء أكان وجودياً أم كان عدمياً دون ذاك ، لا يكون مانعاً عن ثبوت هذا الحكم العام لها.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة ، وهي أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية إلاّفي صورة واحدة ، وهي ما إذا كان عموم العام على سبيل القضية الخارجية وكان المخصص له لبياً ، فانّ لمثل هذا العام ظهوراً في نفسه في أنّ أمر التطبيق بيد المولى ، وعليه فلا محالة يكون عمومه حجةً حتى في الفرد المشكوك فيه على ما تقدم بشكل موسّع.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة اخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقاً للنذر ، بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم ، وكلّ ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً ، للقطع بأ نّه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك (١).

ملخّص ذلك : هو أنّه لا مانع من تصحيح عبادة لم تثبت مشروعيتها من ناحية النذر ، حيث إنّ وجوب الوفاء به يكشف عن صحتها وإلاّ لم يجب الوفاء به جزماً ، نظير الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فانّه كالصلاة قبل الوقت في عدم المشروعية كما في بعض الروايات ومع ذلك يصح بالنذر ، وكذا الصوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٣٨٧

في السفر فانّه غير مشروع ومع ذلك يصح بالنذر.

حري بنا أنّ نتكلم في هذه المسألة في مقامين :

الأوّل : في صحة هذا النذر وفساده.

الثاني : في صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر بالنذر.

أمّا المقام الأوّل : فلا شبهة في أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلاً عن المرجوح ، ضرورة أنّ ما كان لله تعالى لا بدّ وأن يكون راجحاً حتى يصلح للتقرب به إليه تعالى ، فانّ المباح لا يصلح أن يكون مقرّباً ، فاذن لابدّ أن يكون متعلقه عملاً صالحاً لذلك.

وعلى ضوء ذلك فلو شك في رجحان عمل وعدمه لم يمكن التمسك بعموم أوفوا بالنذور ، لفرض أنّ الشبهة هنا مصداقية وقد تقدم أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بل هو من أظهر أفراد التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام ، يعني فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنواناً وجودياً كما هو المفروض هنا ، فانّ موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بعنوان وجودي وهو عنوان الراجح ، وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، لفرض أنّ الشك في رجحان هذا الوضوء ، ومعه كيف يمكن التمسك به.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا المقام الثاني : فلأنّ الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر. وعلى

٣٨٨

ذلك فامّا أن نجعل هذه الأدلة مخصصةً لما دلّ على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه ، وإمّا أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي قدس‌سره في العروة (١).

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بأن لازم هذه النظرية إمكان تصحيح النذر في المحرّمات أيضاً بالرجحان الناشئ من قبله فضلاً عن المكروهات ، وهو كما ترى.

وفيه : أن ما أورده قدس‌سره على هذه النظرية خاطئ جداً ، والسبب في ذلك : أنّ ما دل على حرمة شيء أو كراهته باطلاقه يشمل ما قبل النذر وما بعده ، يعني أنّه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده ، بداهة أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيداً لاطلاقه وإلاّ لأمكن تحليل جميع المحرّمات والواجبات فعلاً وتركاً بالنذر كما أفاده ، والسر فيه : أنّ دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظراً إلى أنّ ما تعلق به النذر راجح أو ليس براجح ، وعليه فلا بدّ من إحرازه من الخارج. نعم ، قد يكون تعلق النذر به ملازماً لانطباق عنوان راجح عليه فحينئذ يصح النذر ، إذ لا يعتبر في صحته أن يكون متعلقه راجحاً قبله أي قبل النذر زماناً ، بل يكفي فيها مقارنته معه زماناً.

وعلى الجملة : فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سبباً وموجباً لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض محبوباً والحرام راجحاً ، حيث إنّه غير ناظر إلى أنّ متعلقه راجح أو غير راجح حرام

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٣٨١ المسألة ١٧ [١٢٠٧].

(٢) العروة الوثقى ( المحشّاة ) : ٢ : ٢٧٤ المسألة ١٧ / فصل في أوقات الرواتب.

٣٨٩

او ليس بحرام وهكذا ، بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج ، فان أحرزنا أنّه راجح صح النذر ، وإن لم يحرز ذلك ـ سواء أحرزنا أنّه مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز ـ فهو غير صحيح.

وعليه فبما أنّ ما دل على حرمة شيء كشرب الخمر مثلاً أو كراهته باطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضاً ، فلا محالة لا يكون مثل هذا النذر صحيحاً لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء بالنذر لما عرفت ، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر ، فانّ صحته في تلك المسألتين إنّما هو من ناحية الروايات الخاصة ، ومن الواضح أنّنا نستكشف من هذه الروايات أنّ تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجح عليهما أو موجب له ، ولأجله يصح النذر ويجب الوفاء به ، فتكون تلك الروايات مقيدةً لاطلاق أدلة عدم مشروعية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.

وبكلمة اخرى : أنّ الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر ، يعني أنّ تعلقه بشيء إذا كان موجباً لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا إشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال في تلك المسألتين ، وأمّا إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن إحرازه ، وبدونه لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلاً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ صحة الصوم في السفر بالنذر وكذا الإحرام قبل الميقات إنّما هي من ناحية أحد أمرين ، إمّا من ناحية أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيداً لاطلاق ما دل على اعتبار الرجحان في متعلقه ،

٣٩٠

وإمّا من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة النذر على الشكل الذي عرفت.

بقي هنا أمران ، الأوّل : ما إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلاً غير واجب ، ولكن لا ندري أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص عموم إكرام كل عالم بغيره ، أو أنّه من ناحية التخصص ، يعني أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية أنّه ليس بعالم ، فدار الأمر في المقام بين التخصيص والتخصص ، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء ، حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت لعدم تأثير ماء الاستنجاء فيه ـ الملاقي ـ فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص ، يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي له هل يكون مخصصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس أو يكون خروجه منه بالتخصص؟

فيه خلاف بين الأصحاب ، فذهب بعضهم إلى الأوّل ، وآخر إلى الثاني بدعوى أنّه لا مانع من التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات طهارة ماء الاستنجاء ، نظراً إلى أنّ الاصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضاً ، فالنتيجة أنّه لا مانع من التمسك بها لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى : أنّ الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يقدم الأوّل على الثاني؟ فيه قولان. المعروف في الألسنة هو القول الثاني ، واستدل عليه بأصالة عدم التخصيص في طرف العام ، وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها

٣٩١

العقلية والعادية ، نظراً إلى أنّ المثبتات من الاصول اللفظية حجة. مثلاً إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في أنّ خروجه منه بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود التخصيص عليه لاثبات التخصص.

ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت بآية أو رواية حتى نأخذ باطلاقها في أمثال المورد ، وإنّما هي ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء ، فاذن بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد ، وقد ثبت جريان سيرتهم فيما إذا احرز فردية شيء لعام وشك في خروجه عن حكمه ، ففي مثل هذا المورد لا مانع من التمسك بها ، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس بأن علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه ، حيث إنّا نعلم بأن زيداً مثلاً خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أنّ خروجه من ناحية أنّه ليس بفرد له أو من ناحية التخصيص ، فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها ، ومع عدم إحرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.

أو فقل : إنّ الاصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجة ، لما ذكرناه في محلّه من أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً ، يعني في أصل الوجود والحجية ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها ، ضرورة أنّها تسقط بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه (١). هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودةً من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء ، وأمّا إذا لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٦٢.

٣٩٢

موضوع للدلالة الالتزامية ، لفرض أنّها متفرعة عليها فكيف يعقل وجودها بدون تلك.

وبعد ذلك نقول : إنّ ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشيء فرداً لعام وشك في خروجه عن حكمه ، ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجةً فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضاً ، لما عرفت من أنّها تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والحجية. وأمّا في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض تماماً فلا تجري هذه الأصالة ، لعدم إحراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنّك بدلالتها الالتزامية. مثلاً لو قال المولى لعبده : بع جميع كتبي الموجودة في مكتبتنا هذه فباع جميعها ، فليس للمولى الاعتراض عليه بقوله : لماذا بعت الكتاب الفلاني ، بل له إلزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة على الخلاف ، وأمّا إذا قال له : بع جميع كتبي ثمّ قال : لا تبع الكتاب الفلاني ونشك في أنّه وقف أو عارية أو أنّه ملكه ، فعلى الأوّل يكون خروجه من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص ، فلا يمكن التمسك بأصالة العموم لاثبات التخصص ، لعدم إحراز جريان السيرة على التمسك بها في مثل المقام. ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّ أمره يدور بين أن يكون خروجه عن عموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص أو التخصص.

بيان ذلك : أنّ في ماء الاستنجاء أقوالاً ثلاثة : الأوّل : النجاسة. الثاني : الطهارة ، ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب. الثالث : النجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشيء بملاقاته.

أمّا القول الأوّل : فلا أصل له ، حيث إنّه يقوم على أساس الأخذ بعموم ما

٣٩٣

دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضاً ، ولكن فساده بمكان من الوضوح ، فانّ الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم جزماً ، للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته. فاذن هذا القول على تقدير القائل به خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، فيدور الحق بين القولين الأخيرين ، ونقول : إنّ هنا طوائف من الروايات :

الاولى : ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.

الثانية : ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس.

الثالثة : ما دلت على عدم انفعال الملاقي لماء الاستنجاء فحسب. ثمّ إنّ هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصةً للطائفة الاولى بغير ماء الاستنجاء ، ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس كالبول أو العذرة ، وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب التخصص ، أو تكون مخصصةً للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب ، ولا ثالث لهما ، فالاحتمال الأوّل يقوم على أساس إحدى دعويين :

الاولى : أنّ الحكم بطهارة الملاقي لماء الاستنجاء إن كان لطهارته ، فلا تخصيص في الطائفة الثانية الدالة على انفعال الملاقي للماء النجس. وإن كان مع نجاسة ماء الاستنجاء ، لزم التخصيص في هذه الطائفة ، فبأصالة عدم التخصيص تثبت طهارة ماء الاستنجاء.

٣٩٤

ويرد على هذه الدعوى أوّلاً : أنّ أصالة العموم في هذه الطائفة معارضة بأصالة العموم في الطائفة الاولى ، للعلم الاجمالي بتخصيص إحداهما بالطائفة الثالثة بناءً على ما هو الصحيح من أنّ مثبتاتها حجة ، فانّ لازم أصالة العموم في الطائفة الاولى تخصيص الطائفة الثانية ، كما أنّ لازم أصالة العموم في الطائفة الثانية تخصيص الطائفة الاولى من ناحية ، وإثبات التخصص من ناحية اخرى ، يعني خروج الملاقي لماء الاستنجاء عن عموم الطائفة الثانية موضوعياً لا حكمياً ، فلا يمكن الجمع بينهما معاً ، لاستلزامه طرح الطائفة الثالثة رأساً.

وثانياً : أنّ هذه الأصالة لا تجري في مثل المقام في نفسها ، للعلم التفصيلي بسقوطها إمّا تخصيصاً وإمّا تخصصاً ، فلا تجري لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى : أنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا علم بفردية شيء للعام وشك في خروجه عن حكمه ، وأمّا إذا علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته له ففي مثل ذلك لا مجال للتمسك بها أصلاً ، وما نحن فيه من هذا القبيل. نعم ، بناءً على جريانها في نفسها تقع المعارضة بين إطلاق الطائفة الاولى وإطلاق الطائفة الثانية. ودعوى أنّ الطائفة الثانية واردة في موارد خاصة فلا إطلاق لها خاطئة جداً ، فانّها وإن كانت كذلك إلاّ أنّ إلغاء خصوصيات الموارد بالارتكاز العرفي مما لا شبهة فيه ، وبضم هذا الارتكاز إليها يثبت الاطلاق ، وحيث لاترجيح في البين فيسقط كلا الاطلاقين معاً ويرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء ، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع موضوعي له ، فالصحيح هو عدم جريانها في نفسها في أمثال المقام.

الثانية : أنّ مقتضى الارتكاز العرفي هو التلازم بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه ، وعلى ضوء هذا التلازم فما دلّ على طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ يدل

٣٩٥

بالالتزام العرفي على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وفيما نحن فيه بما أنّ الطائفة الثالثة تدل على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء فبطبيعة الحال تدل بالالتزام العرفي على طهارة ماء الاستنجاء ، فتكون مخصصةً للطائفة الاولى.

ويرد على هذه الدعوى أوّلاً : أنّ هذه الدلالة الالتزامية معارضة بالدلالة الالتزامية الموجودة فيما دلّ على نجاسة العذرة الشامل باطلاقه للعذرة عند ملاقاة ماء الاستنجاء لها جزماً ، حيث إنّه يدل بالدلالة الالتزامية على نجاسته بالملاقاة ، فانّ مقتضى تلك الدلالة الالتزامية نجاسة ماء الاستنجاء ومقتضى هذه طهارته فلا يمكن الجمع بينهما للتدافع. نعم ، على هذا فالنتيجة هي القول بالطهارة حيث إنّ كلتا الدلالتين الالتزاميتين تسقط فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة الطهارة.

وثانياً : أنّ المستفاد من روايات الباب ـ وهي الطائفة الثالثة ـ عدم وجود هذه الدلالة الالتزامية ، حيث إنّ محطّ السؤال فيها عن حكم الملاقي لماء الاستنجاء ، ومن الطبيعي أنّ السؤال عن حكمه من حيث الطهارة أو النجاسة مساوق لعدم الجزم بالملازمة بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه إمّا في مرتبة ملاقاة الثوب أو البدن لماء الاستنجاء ، أو في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة بعد اليقين بنجاسة العذرة ، وحكم الإمام عليه‌السلام في تلك الروايات بطهارة الثوب الملاقي لا محالة يدل على عدم الملازمة في إحدى المرتبتين ، فإن كان عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمردّه إلى التخصيص في المقام ، وإن كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمردّه إلى التخصص ، وحيث إنّ تلك الطائفة ـ يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب ـ لا تدل على تعيينه ، أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة ، فلا محالة لا ظهور لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها. فاذن لا مانع من الرجوع إلى

٣٩٦

عموم الطائفة الاولى ، حيث إنّ قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.

ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة ولا سيما معتبرة عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجّس ذلك ثوبه؟ قال : لا » (١) فانّها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على ذلك ، وخصوصاً ملاحظة حال المفتي والمستفتي ، فانّه إذا سأل العامي مقلّده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بأ نّه غير منجّس فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.

وعليه فهذه الروايات تعيّن عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين النجاسة ـ وهي العذرة في مفروض المقام ـ نظراً إلى أنّها واردة في مورد خاص ، دون ما دلّ على نجاسة العذرة فانّه يدل بالالتزام على نجاسة ملاقيها مطلقاً في هذا المورد وغيره ، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة الالتزامية في غير هذا المورد.

بقي هنا شيء (٢) : وهو أنّ ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فرداً له كما إذا تردد أمر زيد في مثل لا تكرم زيداً بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية ، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بأصالة العموم بالاضافة إلى زيد العالم ، لفرض أنّ الشك كان

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٣ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ١٤ ح ٥.

(٢) [ وهو الأمر الثاني ].

٣٩٧

في خروجه عن حكم العام ، وبذلك يثبت التخصص ، يعني أنّ الخارج هو زيد الجاهل بناءً على أن مثبتاتها حجة ، والوجه فيه هو أنّ هذا المورد من موارد التمسك بها ، حيث إنّ فرديته للعام محرزة والشك إنّما هو في خروجه عن حكمه ، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة حيث إنّها بعكس ذلك تماماً ، يعني أنّ هناك كان خروج الخارج عن حكم العام معلوماً والشك إنّما هو في فرديته له ، وقد تقدم أنّه لا دليل في مثل ذلك على جريان أصالة العموم لاثبات التخصص.

ولكن قد يقال : بأنّ العلم الاجمالي بحرمة إكرام زيد المردد بين العالم وغيره موجب لترك إكرامهما ، وأصالة العموم لا توجب انحلاله ، نظراً إلى أنّها غير متكفلة لبيان حال الأفراد ، وليس حالها كقيام أمارة على أنّ زيداً العالم يجب إكرامه ، حيث إنّه يوجب انحلاله جزماً ، نظراً إلى أنّها متكفلة لبيان حال الفرد دونها ، فاذن تسقط عن الحجية بالاضافة إلى زيد العالم أيضاً.

وغير خفي ما في هذا القول ، فانّ أصالة العموم وإن لم تكن ناظرةً إلى بيان حال الأفراد ، إلاّ أنّها مع ذلك توجب انحلال هذا العلم الاجمالي ، بيان ذلك :

هو أنّ لها دلالة مطابقية ودلالة التزامية ، فبالاولى تدل على وجوب إكرام زيد العالم ، وبالثانية تدل على انتفاء الحرمة عنه وإثباتها لزيد الجاهل باعتبار أنّ مثبتاتها حجة ، وعلى هذا فلا محالة ينحل هذا العلم الاجمالي إلى علمين تفصيليين هما : العلم بوجوب إكرام زيد العالم ، والعلم بحرمة إكرام زيد الجاهل فلا تردد حينئذ.

وفي نهاية المطاف قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية : وهي أنّ مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصص إذا كانت بالاضافة إلى فرد واحد فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أنّه لا دليل على جريان أصالة العموم فيها لاثبات التخصص ، فاثبات كل منهما يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه إلاّ إذا

٣٩٨

كان هناك أصل موضوعي يحرز به أنّ المشكوك فرد للعام أو ليس بفرد له.

فعلى الأوّل يثبت التخصيص ، وعلى الثاني التخصص ، ولكنّه خارج عن مفروض الكلام.

نعم ، قد يكون مقتضى دليل آخر التخصيص كما في مسألة ماء الاستنجاء فانّ نتيجة التمسك بعموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس هي نجاسة ماء الاستنجاء ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم بطهارة الملاقي له تخصيصاً في دليل انفعال الملاقي لماء النجس ، وقد سبق تفصيل ذلك بشكل موسع (١). وأمّا إذا كانت كبرى مسألة دوران الأمر بينهما بالاضافة إلى فردين يكون أحدهما فرداً للعام والآخر ليس بفرد له فقد عرفت أنّه لا مانع من الرجوع إلى أصالة العموم لاثبات التخصص.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ الكلام في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه يقع في موارد ثلاثة : ١ ـ في الشبهات الحكمية. ٢ ـ في الشبهات المفهومية. ٣ ـ في الشبهات المصداقية. أمّا في الاولى فلا خلاف في جواز التمسك بالعام فيها إلاّما نسب إلى بعض العامة من عدم جوازه مطلقاً أو التفصيل بين المخصص المنفصل والمخصص المتصل فلا يجوز في الأوّل دون الثاني.

الثانية : الصحيح هو جواز التمسك بالعام مطلقاً ، يعني بلا فرق بين كون المخصص منفصلاً أو متصلاً. ودعوى أنّ المخصص إذا كان منفصلاً يوجب التجوز في العام المستلزم لاجماله فلا يمكن التمسك به خاطئة جداً ، وذلك لعدة

__________________

(١) في ص ٣٩٤.

٣٩٩

وجوه منها ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره على تفصيل تقدم.

الثالثة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره يرجع إلى عدة نقاط وقد ناقشنا في النقطة الثالثة منها فحسب دون غيرها.

الرابعة : أنّ العام دائماً يستعمل في معناه الموضوع له وإن لم يكن مراداً واقعاً وجداً ، فانّ الارادة الجدية قد تكون مطابقةً للارادة الاستعمالية وقد لا تكون مطابقة لها ، وما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّا لا نعقل للارادة الاستعمالية في مقابل الارادة الجدية معنىً معقولاً ، قد ذكرنا خطأه وأ نّه لا واقع موضوعي له.

الخامسة : أنّ الوجه الثاني والثالث كليهما يرجع إلى ما حققناه في المقام وليس وجهاً آخر في قبال ما ذكرناه.

السادسة : أنّ ما عن شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من أنّ التخصيص في العام وإن استلزم المجاز فيه إلاّ أنّه لا يمنع من التمسك به بالاضافة إلى غير ما هو الخارج عنه من الأفراد ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه على ما عرفت بشكل موسّع.

السابعة : أنّ المخصص المجمل بحسب المفهوم تارةً يدور أمره بين الأقل والأكثر ، واخرى بين المتباينين ، وعلى كلا التقديرين مرةً اخرى يكون متصلاً واخرى يكون منفصلاً ، فإن كان متصلاً منع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم ، من دون فرق بين أن يكون دائراً بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين ، وإن كان منفصلاً فإن كان أمره دائراً بين الأقل والأكثر فبما أنّه لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم فبطبيعة الحال يقتصر في تخصيصه بالمقدار المتيقن ـ وهو خصوص الأقل ـ وفي الزائد عليه يرجع إلى عموم العام ، وإن

٤٠٠