محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

الرابع : لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ قصد القربة غير مأخوذ في متعلق الأمر مطلقاً ، أي لا في متعلق الأمر الأوّل ولا في متعلق الأمر الثاني ، فمع ذلك لا يتم ما أفاده قدس‌سره ، وذلك ضرورة أنّ النهي لم يتعلق بخصوص قصد القربة فحسب ، ليكون متعلقه غير متعلق الأمر ، بل تعلق بحصة خاصة من الصوم ، وهي الحصة العبادية التي يعتبر فيها قصد القربة. مثلاً المنهي عنه في المقام هو خصوص الصوم العبادي في يوم عاشوراء في مقابل ما إذا كان المنهي عنه هو مطلق الامساك ، لا أنّ المنهي عنه هو خصوص قصد القربة دون ذات العبادة ، بداهة أنّه لا يعقل أن يكون خصوص قصدها منهياً عنه كما هو واضح. فإذن لا محالة يكون المنهي عنه هو إتيانها بقصد القربة ، وعليه فمحذور لزوم كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه باقٍ على حاله ، ضرورة أنّ الاتيان بها بقصد القربة إذا كان منهياً عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به ، لاستحالة أن يكون شيء واحداً محبوباً ومبغوضاً معاً.

فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره غير تام صغرى وكبرى. إذن فالصحيح هو ما ذكرناه من أنّ النهي هنا ليس ناشئاً عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه ، بل هو باقٍ على ما هو عليه من المحبوبية ، ولذا يكون الاتيان به صحيحاً ، بل هو لأجل أرجحية الترك من الفعل باعتبار انطباق عنوان راجح عليه أو ملازمته له خارجاً ووجوداً ، كما تقدّم ذلك بشكل واضح. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعبادة المنهي عنها بدل ، فيمكن أن يجاب عنه بعين هذا الجواب بلا زيادة ونقيصة.

ويمكن أن يجاب عنه بشكل آخر : وهو أنّ النهي في هذا القسم متعلق بحصة خاصة من الواجب ، كالنهي عن الصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة وما شاكل

٢١

ذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى أنّ هذا النهي نهي تنزيهي وليس بتحريمي.

وعلى ضوء ذلك يتبيّن أنّ هذا النهي لايوجب تقييد إطلاق الطبيعة المأمور بها بغير هذه الحصة المنهي عنها ، بيان ذلك :

أنّ النهي المتعلق بحصة خاصة من العبادة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون إرشاداً إلى اقتران هذه الحصة بالمانع ، بمعنى أنّ الخصوصية الموجبة لكونها حصة مانعة عنها ، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس وفي الميتة وما شاكل ذلك ، فانّ هذه النواهي جميعاً إرشاد إلى مانعية هذه الامور عن الصلاة وتقيدها بعدمها ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ أمثال هذه النواهي الواردة في أبواب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية بمقتضى الفهم العرفي ، كما تقدّم الكلام فيها من هذه الناحية بصورة واضحة في أوّل بحث النواهي (١) كما أنّه لا شبهة في ظهور الأوامر الواردة في أبواب العبادات والمعاملات في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه النواهي كثيرة في كلا البابين ، كما أنّ هذه الأوامر كذلك.

وعلى الجملة : فالأمر والنهي وإن كانا في أنفسهما ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد بلا قرينة ، إلاّ أنّ هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر الواردتين في أبواب العبادات والمعاملات ، فهما ظاهران فيها في الارشاد دون المولوية بمقتضى المتفاهم العرفي ، كما هو واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّ هذه النواهي لا محالة تكون مقيّدة

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٠٧.

٢٢

لاطلاق العبادة والمعاملة وموجبة لتقييدهما بغير الحصة المنهي عنها ، فلا تنطبقان عليها ، ومن هنا لم يستشكل أحد ـ فيما نعلم ـ في دلالة هذا النهي على الفساد في العبادات والمعاملات ، والوجه فيه ما عرفت من أنّها توجب تقييد المأمور به بغير هذه الحصة المنهي عنها ، فهذه الحصة خارجة عن حيز الأمر ولا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها ، ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بصحتها أبداً ، لفرض أنّ الصحة تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به ، وأمّا إذا فرض أنّه لا ينطبق عليه فلا يمكن الحكم بصحته أصلاً كما هو ظاهر ، كما أنّها توجب تقييد المعاملة بغير هذه الحصة ، ولازم ذلك هو أنّ اقترانها بها مانع عن صحتها ، فلا يمكن الحكم بصحتها عند تخصصها بهذه الخصوصية المنهي عنها.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّه لا شبهة في أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد العبادة أو المعاملة بغير الفرد المنهي عنه ، ومعه لا يكون هذا الفرد من أفرادها ولأجل ذلك يكون فاسداً.

الثاني : أن يكون لبيان حكم تحريمي فحسب ، وذلك كالنهي عن الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب ، أو النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة ... وهكذا ، فهذه النواهي تدل على حرمة متعلقها في الخارج ومبغوضيته ، وأنّ الشارع لا يرضى بايجاده فيه أصلاً ، ومن الواضح جداً أنّ أمثال هذه النواهي تنافي إطلاق المأمور به وتوجب تقييده بغير هذا الفرد المنهي عنه ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ مقتضى إطلاق المأمور به ترخيص المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء المكلف إيجاده ، ومقتضى هذا النهي عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج ، وعدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه ، ضرورة استحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب ، وعليه فلا بدّ من رفع اليد عن

٢٣

إطلاق المأمور به وتقييده بغير الفرد المنهي عنه ، بداهة أنّ الشارع بنهيه عنه قد سدّ طريق امتثال المأمور به به ، ومنع عن إيجاده في ضمنه ، ومعه كيف يعقل بقاء إطلاقه على حاله الذي لازمه هو ترخيص الشارع المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء إيجاده في ضمنه.

وإن شئت قلت : إنّ العقل وإن حكم من ناحية الاطلاق بجواز تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء المكلف تطبيقه عليه ، إلاّ أنّ من المعلوم أنّ حكمه بذلك منوط بعدم منع الشارع عن بعض أفراده ، ومع منعه عنه لا حكم له بذلك أصلاً ، بل يحكم بعكس هذا ، أعني بعدم جواز تطبيقه عليه وتقييد إطلاقه بغيره ، ضرورة استحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصلياً أو تعبدياً ، فكما أنّ هذا النهي يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التعبدي ، فكذلك يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التوصلي بعين هذا الملاك ، وهو استحالة كون الحرام مصداقاً للواجب ، وهذا واضح.

ونتيجة ما ذكرناه : هي أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد إطلاق الواجب بغير الفرد المنهي عنه ، من دون فرق فيه بين أن يكون الواجب تعبدياً أو توصلياً.

الثالث : أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلقه ، ففي مثل ذلك لا موجب لتقييد الواجب بغيره حتّى إذا كان عبادياً ، فضلاً عما إذا كان غير عبادي ، بيان ذلك : أنّ المولى إذا نهى عن الصلاة في الحمام مثلاً وكان نهيه تنزيهياً وملازماً للترخيص في الاتيان بها ، فمعناه جواز امتثال الواجب بالاتيان بالصلاة في الحمام وصحّتها ، والجمع بين ذلك وبين النهي التنزيهي يقتضي أن يكون تطبيق الطبيعي الواجب على هذه الحصة في نظر الشارع مرجوحاً بالاضافة

٢٤

إلى تطبيقه على سائر الحصص ، وإلاّ فالحصة بما أنّها وجود للطبيعة المأمور بها لا نقصان فيها أصلاً ، ومن هنا لو لم يتمكن المكلف من الاتيان بغير هذه الحصة لزمه الاتيان بها جزماً ، فهذا يكشف عن اشتراكها مع سائر الحصص في الوفاء بالغرض ، وعدم تقييد الواجب بغيرها.

ومن هذا البيان يظهر أنّه لا وجه لما ذكره غير واحد من حمل النهي في هذا القسم على الارشاد إلى أقلّية الثواب بالاضافة إلى سائر الحصص والأفراد ، وجه الظهور : أنّ تخصص الطبيعة المأمور بها بهذه الخصوصية الموجبة للنهي التنزيهي ، إن كان مرجوحاً في نظر الشارع فالنهي مولوي لا محالة ، وإلاّ فلا موجب للارشاد إلى اختيار غير ما تعلق به من الأفراد.

ومما ذكرناه يظهر حال الأمر الاستحبابي المتعلق بحصة خاصة من الطبيعة الواجبة ، فانّه بمعنى استحباب تطبيق الواجب على تلك الحصة ، وكونها أفضل الأفراد المجامع مع جواز تطبيقه على سائر الأفراد ، ومن هنا لا يوجب مثل هذا الأمر تقييداً في إطلاق المأمور به ، سواء في ذلك الواجب وغيره ، وتفصيل الكلام يأتي في بحث المطلق والمقيد (١) إن شاء الله تعالى.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه بالنهي التنزيهي نسبة العموم من وجه ، فقد ظهر الحال فيه مما تقدّم وحاصله : أنّه لا إشكال فيه في صحة العبادة على القول بالجواز ـ أي جواز اجتماع الأمر والنهي ـ ولا يكون دليل النهي عندئذ موجباً لتقييد إطلاق دليل المأمور به ، لفرض تعدد متعلقي الأمر والنهي حينئذ في مورد الاجتماع من ناحية ، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر من ناحية اخرى ، وعلى هذا فلا موجب للتقييد أصلاً.

__________________

(١) في ص ٥٥٣.

٢٥

وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً ، فربّما يتخيل فساد العبادة فيه من ناحية توهم التنافي بين صحتها في مورد الاجتماع وكونها مكروهة فيه ، لتضاد الأحكام وعدم اختصاصه بالوجوب والحرمة ، بل يعم جميع الأحكام الالزامية وغيرها ، فإذن فرض كون العبادة مكروهةً ينافي كونها مصداقاً للواجب أو المستحب ، وعليه فلا بدّ من تقييد إطلاق دليل الأمر بغير موارد الكراهة ، كما هو الحال فيما إذا كان النهي تحريمياً.

ولكن هذا خيال خاطئ وغير مطابق للواقع ، والوجه في ذلك : هو أنّ النهي عن حصة خاصة من العبادة لا يوجب تقييد إطلاقها بغيرها إذا كان تنزيهياً كما هو المفروض في المقام ، فانّ النهي التنزيهي بما أنّه ملازم للترخيص في إيجاد متعلقه في الخارج فلا ينافي الرخصة في انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وهذا بخلاف ما إذا كان النهي تحريمياً ، فانّه ينافي إطلاق المأمور به على ما تقدّم بيان جميع ذلك بصورة واضحة فلا نعيد. وإن شئت قلت : إنّ القسم الثالث على القول بالامتناع يدخل في القسم الثاني ويكون من صغرياته فيجري فيه جميع ما ذكرناه فيه.

الدليل الثاني :

ما عن جماعة من أنّ المولى لو أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص ، فلو خاطه في ذلك المكان لعدّ عاصياً للنهي عن الكون فيه ، ومطيعاً لأمر الخياطة.

وغير خفي أنّ هذا الدليل غير قابل للاستدلال به ، وذلك أمّا أوّلاً : فلأنّ الغرض من الخياطة يحصل بايجادها في الخارج ، سواء أكان إيجادها في ذلك المكان المخصوص المنهي عنه أم لا ، وسواء فيه القول باتحاد الخياطة مع الكون

٢٦

فيه فرضاً أو القول بعدم اتحادهما معه. وأمّا ثانياً : فلأن متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي ، فانّ متعلق الأمر خياطة الثوب ، ومتعلق النهي هو الكون في ذلك المكان ، ومن المعلوم أنّ أحدهما غير الآخر وجوداً وماهيةً ، وعليه فلا مانع من أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي ، ولا يلزم من القول بالامتناع في المسألة القول بالامتناع هنا أبداً كما هو واضح.

الدليل الثالث :

ما عن المحقق القمي قدس‌سره (١) من أنّ الأمر على الفرض تعلق بطبيعة كالصلاة مثلاً ، والنهي تعلق بطبيعة اخرى كالغصب مثلاً أو نحوه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الفرد الذي يكون مجمعاً لعنوانين في مورد الاجتماع مقدّمة لوجود الطبيعي في الخارج الذي يكون واجباً بوجوب نفسي ، وعلى هذا الضوء يتوقف القول بالامتناع في المسألة على الالتزام بأمرين : الأوّل : بوجوب المقدّمة. الثاني : بتنافي الوجوب الغيري مع النهي النفسي.

ولكن كلا الأمرين خاطئ ، أمّا الأمر الأوّل : فقد ذكر قدس‌سره أنّ مقدمة الواجب ليست بواجبة ليكون تنافٍ بين وجوب هذا الفرد الذي يكون مقدمة للطبيعي الواجب وبين حرمته. وأمّا الأمر الثاني : مع تسليم أنّ مقدمة الواجب واجبة مطلقاً ، فلما حققناه من أنّه لا تنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي أصلاً ولا مانع من اجتماعهما في شيء واحد.

وعلى الجملة : فعلى فرض أنّ النهي يسري إلى هذه الحصة التي تكون مجمعاً

__________________

(١) قوانين الاصول : ١٤٠ ، السطر ٢٤.

٢٧

لهما ، باعتبار انحلال هذا النهي وسريانه إلى جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها ، فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين وهما الوجوب والحرمة في شيء واحد ، لأنّ ما هو محرّم وهو الفرد ليس بواجب ، وما هو واجب وهو الطبيعة المأمور بها ليس بمنهي عنه ، وعلى فرض أنّ الفرد واجب بوجوب غيري ، فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين ، لعدم التنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي كما مرّ ، فإذن لا مانع من القول بالجواز في المسألة.

وغير خفي ما فيه : وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره يرتكز على ركيزتين ، وكلتاهما خاطئة.

أمّا الركيزة الاولى : وهي كون الحصة والفرد مقدمةً للطبيعة المأمور بها ، فواضحة الفساد ، ضرورة أنّ الفرد ليس مقدمةً للطبيعي ، بل هو عينه وجوداً وخارجاً ولا تعقل المقدمية بينهما ، لوضوح أنّها إنّما تعقل بين شيئين متغايرين في الوجود ، وعليه فالحصة الموجودة في مورد الاجتماع بما أنّها تكون محرّمة بنفسها ومنهياً عنها ، فلا يعقل أن تكون مصداقاً للواجب ، وهذا معنى القول بالامتناع ، بداهة أنّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، كذلك يمتنع أن يكون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به.

وأمّا الركيزة الثانية : وهي كون الوجوب الغيري لا ينافي النهي النفسي ، فهي أيضاً واضحة الفساد ، ضرورة أنّ الوجوب الغيري على القول به لا يجتمع مع النهي النفسي ، فالمقدّمة إذا كانت محرّمة لا يعقل أن تكون واجبة ، فلا محالة يختص الوجوب بغيرها من المقدّمات ، كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب (١)

__________________

(١) لاحظ المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٧٣.

٢٨

بشكل واضح. ولكنّ الذي يسهّل الخطب هو أنّه لا مقدمية في البين ، وعليه فإذا فرض أنّ الحصة في مورد الاجتماع محرّمة كما هو مفروض كلامه قدس‌سره فلا يعقل أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها ، بداهة أنّ المحرّم لا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب ، وهذا معنى امتناع اجتماع الأمر والنهي. هذا إذا كان مراده من المقدمة ما هو ظاهر كلامه قدس‌سره.

وأمّا لو كان مراده قدس‌سره منها هو أنّ الفرد لايتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلق الوجوب هو صرف وجود الطبيعة ، ومن المعلوم أنّه لا يسري إلى أفراده وحصصه ، وهذا بخلاف النهي ، فانّ متعلقه مطلق الوجود ، ولذا ينحل بانحلال أفراده ويسري إلى كل واحد منها ، وعلى هذا الضوء فلا يجتمع الوجوب والحرمة هنا في شيء واحد ، فإنّ الحصة الموجودة في مورد الاجتماع لا تتصف بالوجوب على الفرض ، وإنّما هي متصفة بالحرمة فحسب ، فإذن لا يجتمع الوجوب والحرمة فيها ليكون محالاً.

فيرد عليه أوّلاً : أنّ هذا خلاف مفروض كلامه قدس‌سره فانّ المفروض فيه هو أنّ الفرد مقدمة لوجود الطبيعي في الخارج ، لا أنّه لا يتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلقه هو صرف الوجود. وثانياً : أنّ الأمر وإن كان كذلك ، فانّ الحصة لا تتصف بالوجوب ، إلاّ أنّها إذا كانت محرّمة يستحيل أن تقع مصداقاً للواجب ، وعليه فاذا فرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع محرّم ومنهي عنه ، يستحيل أن ينطبق عليه الواجب ، وهذا معنى القول بالامتناع ، لما عرفت من أنّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد ، كذلك يمتنع أن يكون الحرام مصداقاً للواجب.

فالنتيجة : أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو ما

٢٩

ذكرناه من وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً وتعدده كذلك ، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع ، وعلى الثاني من القول بالجواز على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.

إلى هنا قد تبيّن أنّ العمدة للقول بالجواز هي الوجه الأوّل ، وأمّا الوجه الثاني والثالث فهما لا يرجعان إلى معنىً محصل أصلاً ، كما أنّ الوجوه الاخر التي ذكرت لهذا القول لا ترجع إلى معنى معقول ، ولأجل ذلك لا نتعرض لتلك الوجوه ، لوضوح فسادها وعدم ارتباطها للقول بالجواز أصلاً.

ونتائج البحث عن العبادات المكروهة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما يمكن أن يستدل به للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة مطلقاً إنّما هو موارد العبادات المكروهة ، بدعوى أنّه لو لم يجز الاجتماع لم يمكن تعلق النهي بتلك العبادات ، ضرورة عدم اختصاص المضادة بين الوجوب والحرمة فحسب ، بل تعم جميع الأحكام من الالزامية وغيرها ، فإذن تعلق النهي بها ووقوعه في الخارج أقوى برهان على إمكانه وعدم استحالته ، وإلاّ لم يقع.

الثانية : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد أجاب عن هذا الدليل بصورة إجمالية ، ولكن قد عرفت النقد في بعض جهات جوابه ، ثمّ أجاب عنه بصورة تفصيلية ، حيث قسّم تلك العبادات إلى ثلاثة أقسام ، وأجاب عن كل واحد واحد منها مستقلاً ، ولا بأس بجوابه هذا في الجملة.

الثالثة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد أورد على ما أجاب به صاحب الكفاية قدس‌سره عن القسم الأوّل بما ملخصه : أنّ التزاحم لا يعقل بين النقيضين ، ولا بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وبما أنّ الصوم يوم عاشوراء

٣٠

وتركه متناقضان ، فلا يمكن جعل الحكم لهما معاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال ، بل هما يدخلان في باب المعارضة فيرجع إلى قواعده وأحكامه. ولكن قد ذكرنا أنّ ما أفاده قدس‌سره من الكبرى ـ وهي استحالة وقوع المزاحمة بين النقيضين والضدين اللذين لا ثالث لهما ـ وإن كان في غاية المتانة والاستقامة ، إلاّ أنّ تطبيق تلك الكبرى على المقام غير صحيح ، وذلك لوجود أمر ثالث في البين وهو الامساك بدون قصد القربة فانّه لا موافقة فيه لبني اميّة ولا مخالفة لهم ، فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما اصلاً ، كما تقدّم ذلك بشكل واضح.

الرابعة : أنّ النهي في القسم الأوّل لا يخلو من أن يكون إرشاداً إلى محبوبية الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه أو ملازمته له ، أو يكون بمعنى الأمر ، أعني به ما يكون نهياً صورة وشكلاً وأمراً واقعاً وحقيقةً.

الخامسة : أنّ النهي في القسم الثاني نهي مولوي ، ويترتب على هذا أنّ الكراهة في المقام كراهة مصطلحة وليست بمعنى أقلّية الثواب ، ومع ذلك لا تكون منافية لاطلاق العبادة فضلاً عن غيرها ، غاية الأمر أنّ تطبيق الطبيعة المأمور بها على هذه الحصة المنهي عنها مرجوح بالاضافة إلى تطبيقها على غيرها من الحصص والأفراد ، كما تقدّم.

السادسة : أنّه لا فرق في القسم الثالث من أقسام العبادات المكروهة بين القول بالامتناع والقول بالجواز ، فعلى كلا القولين تكون العبادة صحيحة في مورد الاجتماع ، أمّا على القول بالجواز فهي على القاعدة ، وأمّا على القول بالامتناع فلأجل ما ذكرناه في القسم الثاني من هذه الأقسام في وجه صحة العبادة باعتبار أنّ هذا القسم على هذا القول داخل فيه ، ويكون من صغرياته كما تقدّم.

٣١

الاضطرار إلى ارتكاب المحرّم

لتمييز موضع البحث هنا عن المباحث المتقدمة ينبغي أن نشير إلى عدّة نقاط :

الاولى : ما إذا كان المكلف متمكناً من امتثال الواجب في الخارج بدون ارتكاب الحرام ، ولكنّه باختياره ارتكب المحرّم وأتى بالواجب في ضمنه ، وذلك كمن كان قادراً على الاتيان بالصلاة مثلاً في خارج الأرض المغصوبة وغير ملزم بالدخول فيها ، ولكنه باختياره دخل فيها وصلّى ، فعندئذ يقع الكلام في صحة هذه الصلاة وفسادها من ناحية أنّها هل تتحد مع المحرّم خارجاً في مورد الاجتماع أم لا؟ وهذه النقطة هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تقدّم الكلام فيها بشكل واضح (١).

الثانية : ما إذا كان المكلف غير متمكن من امتثال الواجب بدون ارتكاب الحرام لعدم المندوحة له ، ولكنّه قادر على ترك الحرام ، وذلك كما إذا توقف الوضوء أو الغسل مثلاً على التصرف في أرض الغير ، بأن يكون الماء في مكان يتوقف التوضؤ أو الاغتسال به على التصرف فيها ، فيدور عندئذ أمر المكلف بين أن يترك الواجب أو يرتكب المحرم أو يتخير بينهما ، لعدم تمكنه من امتثال كليهما معاً ، وهذه النقطة هي التي تدور عليها بحث التزاحم ، وقد تقدّم الكلام فيها بصورة مفصّلة (٢).

الثالثة : ما إذا كان المكلف غير متمكن من ترك الحرام ومضطراً إلى ارتكابه ،

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤١٥ ، ثمرة مسألة الاجتماع.

(٢) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٥١٠ ، ٥١٥ ، وكذا مجلد ٣ : ٥٠٩.

٣٢

وذلك كمن كان محبوساً في الدار المغصوبة مثلاً ، سواء أكانت مقدمته باختياره أو بغير اختياره ، وبعد ذلك لا يتمكن من الخروج عنها فطبعاً عندئذ يضطر إلى الصلاة فيها ، وهذه النقطة هي محل البحث في المقام دون غيرها.

وبعد ذلك نقول : الكلام فيها يقع في موضعين :

الأوّل : في الاضطرار الناشئ بغير سوء اختيار المكلف.

الثاني : في الاضطرار الناشئ بسوء اختياره.

[ الاضطرار لا بسوء الاختيار ]

أمّا الموضع الأوّل فالكلام فيه يقع في موردين :

الأوّل : في حكم الفعل المضطر إليه نفسه.

الثاني : في حكم العبادة الواقعة معه.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في أنّ الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن الفعل المضطر إليه ولا يعقل بقاؤه ، ضرورة استحالة توجيه التكليف إلى المضطر ، لأنّه تكليف بما لا يطاق وهو محال عقلاً.

هذا ، مضافاً إلى ما دلّت عليه عدّة من الروايات (١).

__________________

(١) قال الصدوق : حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطار قال : حدّثنا سعد بن عبدالله عن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن امّتي تسعة :

٣٣

..........................................

__________________

الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (١).

ثمّ إنّ الموجود في نسخة الخصال (٢) : محمّد بن أحمد بن يحيى العطار وهو غلط ، والصحيح هو أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، لأنّه من مشايخ الصدوق ، وأمّا محمّد ابن أحمد بن يحيى العطار فلا وجود له أصلاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى أنّه وقع اختلاف يسير في هذه الرواية ، بين ما في الوسائل وما في الخصال والتوحيد ، فإنّ ما فيهما أعني الخصال والتوحيد مشتمل على جملة « ما اضطروا إليه » دون كلمة « السهو » وما في الوسائل عكس ذلك ، يعني أنّه مشتمل على كلمة « السهو » دون جملة « ما اضطروا إليه » ولعل منشأ هذا الاختلاف اختلاف النسخ أو جهة اخرى ، وكيف كان فلا يهمّنا ذلك بعد كون الرواية ضعيفة.

ومن هنا يظهر أنّ توصيف شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣) هذه الرواية بالصحة بقوله : المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد في غير محلّه ، ولعلّه قدس‌سره يرى صحّتها باعتبار أنّ أحمد بن

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١ ، ٧ : ٢٩٣ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣٧ ح ٢ ، ٨ : ٢٤٩ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٣٠ ح ٢ ، ورواه في الخصال : ٤١٧ / ٩ وفي التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. وهي ضعيفة بأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار لعدم ثبوت وثاقته.

(٢) [ ولكنّ في الخصال الموجود عندنا : أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ].

(٣) فرائد الاصول ١ : ٣٦١.

٣٤

..........................................

__________________

محمّد بن يحيى العطار من مشايخ الصدوق ، وهذا المقدار يكفي في توثيقه ، أو باعتبار رواية الأجلاء عنه ، ولكن من المعلوم أنّ مجرد كونه من مشايخه أو رواية الأجلاء عنه لا يكفي في توثيقه ، بل لا يثبت به حسنه فضلاً عن وثاقته ، لأن من مشايخه مَن كان معلوم الضعف ، كما أنّ رواية الأجلاء عمن كان كذلك كثيرة ، فإذن كيف يكون هذا قرينة على صحة الرجل.

٢ ـ موثقة أحمد بن محمّد بن يحيى عن سماعة عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : إذا حلف الرجل تقيةً لم يضرّه إذا اكره واضطرّ إليه ، وقال : ليس شيء ممّا حرّم الله إلاّوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه » (١).

٣ ـ موثقة سماعة عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟ فقال : لا ، إلاّ أن يكون مضطراً إليه وليس عنده غيرها ، وليس شيء مما حرّم الله إلاّوقد أحلّه لمن اضطر إليه » (٢).

٤ ـ أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن إسماعيل الجعفي عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : وضع عن هذه الامّة ستّة خصال : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه » (٣).

يقع الكلام في سند هذه الرواية ، والظاهر أنّ سندها صحيح ، فان في سندها

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٢٨ / كتاب الأيمان ب ١٢ ح ١٨.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٨٣ / أبواب القيام ب ١ ح ٧.

(٣) الوسائل ٢٣ : ٢٣٧ / كتاب الأيمان ب ١٦ ح ٣.

٣٥

..........................................

__________________

إسماعيل الجعفي وهو إسماعيل بن جابر الجعفي ، إذ إسماعيل الجعفي الذي ورد بهذا العنوان في الروايات كثيراً أمره مردد بين ابن جابر وابن عبدالرحمن ، وليس هو رجلاً آخر غيرهما كما هو واضح ، وإلاّ لتعرض له أرباب الرجال لا محالة.

نعم ، ذكره الشيخ قدس‌سره في رجاله (١) في أصحاب الصادق والباقر عليهما‌السلام بعنوان الخثعمي ( إسماعيل بن جابر الخثعمي ) وفي أصحاب الكاظم عليه‌السلام بلا عنوان : إسماعيل بن جابر ، ومن هنا وقع الاختلاف في تعدد الرجل وأنّ المسمى بإسماعيل بن جابر واحد أو متعدد ، ولكنّ الظاهر بل لا شبهة في أنّه واحد ، ويدلنا على ذلك امور :

الأوّل : أنّه لو كان رجلين لذكرهما الشيخ في كتابيه الرجال والفهرست ، ولا سيما في الفهرست حيث إنّه معدّ لذكر أرباب الكتب والاصول ، مع أنّه لم يذكر فيه إلاّ إسماعيل بن جابر بلا توصيف (٢) ولذكرهما النجاشي أيضاً في رجاله مع أنّه لم يذكر إلاّ إسماعيل بن جابر الجعفي (٣) ، ولا معنى لأن يذكر الشيخ أحدهما في كتابيه والنجاشي الآخر ، مع أنّ بناء كل منهما على ذكر أرباب الكتب والاصول. ومما يؤيد الاتحاد أنّ الراوي عنهما صفوان بن يحيى ، وأ نّه يبعد عدم اطلاع الشيخ على الجعفي مع أنّه صاحب أصل ، بل وكيف يمكن ذلك مع اشتهار الجعفي بين الرواة ووروده في الروايات ، كما أنّه يبعد عدم اطلاع النجاشي والكشي على الخثعمي وكل ذلك يؤكد الاتحاد.

__________________

(١) رجال الطوسي : ١٦٠ / ١٧٨٩ ، ١٢٤ / ١٢٤٦ ، ٣٣١ / ٤٩٣٤.

(٢) الفهرست : ١٥ / ٤٩.

(٣) رجال النجاشي : ٣٢ / ٧١.

٣٦

..........................................

__________________

الثاني : أنّ جملة من أرباب الكتب نقلوا عن رجال الشيخ إسماعيل بن جابر الجعفي لا الخثعمي منهم العلاّمة في الخلاصة (١) والتفريشي في نقد الرجال (٢) ومولى عناية الله في المجمع (٣) وهذا النقل من هؤلاء الأكابر شاهد صدق على تحريف نسخة رجال الشيخ بتبديل الجعفي بالخثعمي.

الثالث : الموجود في روايات كتابي الشيخ أعني التهذيب والاستبصار ليس هو إسماعيل بن جابر الخثعمي ، بل الموجود فيهما إمّا إسماعيل بن جابر بلا توصيف كما هو الغالب أو إسماعيل الجعفي وهذا كثير ، فهذا قرينة على وقوع التحريف في رجاله وعدم وجودٍ لإسماعيل بن جابر الخثعمي.

نعم بقي هنا شيء ، وهو أنّ الجعفي كما أنّه لقب لإسماعيل بن جابر كذلك هو لقب لإسماعيل بن عبدالرحمن ، فإذن من أين يعلم أنّ المراد من الجعفي في هذه الرواية هو ابن جابر دون ابن عبدالرحمن.

والجواب عن ذلك أوّلاً : أنّ المراد من إسماعيل الجعفي في هذه الرواية لا محالة هو ابن جابر ، وذلك لأنّ إسماعيل بن عبدالرحمن الجعفي مات في حياة أبي عبدالله عليه‌السلام على ما ذكره الشيخ في رجاله ، فإذن الراوي عن إسماعيل الجعفي إذا أدرك زمان أبي عبدالله عليه‌السلام فهو طبعاً مردد بين ابن جابر وابن عبدالرحمن.

وأمّا إذا لم يدرك زمانه عليه‌السلام فيتعين في ابن جابر ، ضرورة أنّه لا يمكن رواية

__________________

(١) الخلاصة : ٥٤.

(٢) نقد الرجال ١ : ٢١٢.

(٣) مجمع الرجال ١ ـ ٢ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٣٧

وأمّا الكلام في الثاني فيقع في عدّة مقامات :

الأوّل : في بيان ما هو المستفاد من تعلق النهي بعبادة أو معاملة ، وهذا وإن كان خارجاً عن محل الكلام فانّه في الاضطرار إلى ارتكاب المحرّم لا غيره ، إلاّ أنّه لا بأس بالاشارة إليه لأدنى مناسبة. الثاني : في صحة العبادة في فرض عدم اتحادها مع المحرّم خارجاً. الثالث : في صحة العبادة في فرض اتحادها معه كذلك.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ النهي في العبادات كقوله عليه‌السلام :

« لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » أو « في الميتة » أو « في الحرير » أو « في الذهب » أو « في النجس » (١) أو ما شاكل ذلك ، أو في المعاملات كقوله عليه‌السلام : « لاتبع ما ليس عندك » (٢) وقوله عليه‌السلام : « نهى النبي ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )

__________________

من لم يدرك زمانه عليه‌السلام عن إسماعيل بن عبدالرحمن بلا واسطة.

وعلى هذا الأساس يتعين في هذه الرواية أنّه ابن جابر ، لأنّ الراوي عنه أحمد بن محمّد ابن عيسى وهو ممن لم يدرك زمان أبي عبدالله عليه‌السلام.

وثانياً : على تقدير التنزل عن ذلك ، أنّ هذا الترديد لا ينافي اعتبار الرواية ، لأن إسماعيل بن عبدالرحمن الجعفي أيضاً ثقة ولا أقل أنّه حسن ، لقول النجاشي في رجاله أنّه كان وجهاً في أصحابنا ، فإذن لا إشكال في اعتبار الرواية وصحّتها.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٦ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ٦ ، وص ٣٤٤ ب ١ ح ٢ ، وص ٣٦٨ ب ١١ ح ٢ ، وص ٤١٣ ب ٣٠ ح ٤ ، الوسائل ٣ : ٤١٨ / أبواب النجاسات ب ١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤٧ / أبواب أحكام العقود ب ٧ ح ٢.

٣٨

عن بيع الغرر » (١) ونحوهما ، ظاهر في الارشاد إلى مانعية هذه الامور عن العبادات أو المعاملات ، ومعنى مانعيتها هو اعتبار عدمها فيها ، ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الامور وكذا الممضاة من المعاملة.

ويترتب على ذلك : أنّ الصلاة فيما لا يؤكل أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك ليست بمأمور بها ، ومن المعلوم أنّ الاتيان بغير المأمور به لايجزئ عن المأمور به ولا يوجب سقوطه ، فإذن لا محالة يقع فاسداً ، بل لو أتى بها مع أحد هذه الموانع بقصد الأمر لكان تشريعاً ومحرّماً ، وكذا لو فعل معاملةً غرريةً أو باع ما ليس عنده ، فلا محالة تقع فاسدةً لفرض أنّها غير ممضاة شرعاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه النواهي إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة مع أحد هذه الامور ، فيكون البطلان مدلولاً مطابقياً لها ، ولا تدل على حكم تكليفي أصلاً ، ولذا لا يكون إيجادها في الخارج من المحرّمات في الشريعة المقدّسة ، فلا يكون لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس محرّماً ومبغوضاً. نعم ، لبس الحرير والذهب من المحرّمات ، إلاّ أنّ حرمته غير مستفادة من هذا النهي ، بل هي مستفادة من دليل آخر ، وكيف كان فهذا واضح ، وأنّ هذه النواهي من هذه الناحية ـ أي من ناحية كونها إرشاداً إلى مانعية تلك الامور ـ لا تدل على حرمة إيجادها في الخارج أبداً. نعم ، يمكن استفادة حرمة بعضها من دليل آخر ، وهذا لا صلة له بدلالة تلك النواهي عليها كما لا يخفى.

وعلى ضوء هذا البيان يترتب أنّ المكلف لو اضطرّ إلى لبس ما لا يؤكل في الصلاة أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك ، فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣.

٣٩

الصلاة ، لعدم تمكنه من الاتيان بها واجدةً لجميع الأجزاء والشرائط ، ومعه لا محالة يسقط الأمر عنها ، وإلاّ لكانت تكليفاً بالمحال. وأمّا وجوب الفاقد لهذا القيد فهو يحتاج إلى دليل آخر ، فإن دلّ دليل على وجوبه أخذنا به ، وإلاّ فلا وجوب له أيضاً.

وعلى الجملة : فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عن كل مركب إذا تعذر أحد أجزائه أو قيوده من الوجودية أو العدمية باضطرار أو نحوه ، ولايعقل بقاء الأمر به في هذا الحال ، لاستلزامه التكليف بغير المقدور وهو محال. وأمّا وجوب الباقي من الأجزاء والقيود فهو يحتاج إلى دليل آخر ، فإن كان هناك دليل عليه فهو ، وإلاّ فلا وجوب له أيضاً.

نعم ، قد ثبت وجوب الباقي في خصوص باب الصلاة من جهة ما دلّ من الروايات على أنّها لا تسقط بحال (١) ، هذا مضافاً إلى قيام الضرورة والاجماع القطعي على ذلك.

وقد تحصّل من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ الأوامر والنواهي بطبعهما ظاهرتان في المولوية ، وحملهما على غيرها من الارشاد أو نحوه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خاصة تدل عليه ، ولكن هذا الظهور قد انقلب في الأوامر والنواهي المتعلقتين بحصة خاصة من العبادات والمعاملات ، فانّهما في هذه الموارد ظاهرتان في الارشاد ، فالأوامر إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية والنواهي إلى المانعية. فتلخص أنّ ورودهما في أبواب العبادات والمعاملات قرينة عامّة على أنّهما للارشاد.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

٤٠