محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحداً أو متعدداً.

نلخّص هذا المبحث في ضمن عدة نقاط :

الاولى : أنّ محل الكلام هنا كما عرفت إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه ، وأمّا غير المعتمد فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم.

الثانية : أنّ ملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم ، وأمّا إذا كان راجعاً إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له عليه ، وبما أنّ الوصف من القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم.

الثالثة : أنّه قد استدلّ على المفهوم بوجوه ثلاثة وقد عرفت نقدها جميعاً.

الرابعة : أنّ الحق في المقام هو التفصيل على شكل قد تقدم.

الخامسة : أنّ لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه.

مفهوم الغاية

يقع الكلام فيه في مقامين ، الأوّل : في المنطوق. الثاني : في المفهوم.

أمّا المقام الأوّل : فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيّي وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غايةً للمتعلق أو الموضوع على وجوه بل أقوال ، ثالثها : التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّي وعدم كونها من جنسه ، فعلى الأوّل الغاية داخلة فيه دون الثاني. ورابعها : التفصيل بين كون الغاية مدخولةً لكلمة « حتى » وكونها مدخولةً لكلمة « إلى » فعلى الأوّل هي داخلة في المغيّي دون الثاني.

٢٨١

وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث قال : وهذا التفصيل وإن كان حسناً في الجملة لأنّ كلمة « حتى » تستعمل غالباً في إدخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلةً في المغيّى لا محالة ، لكن هذا ليس بنحو الكلية والعموم فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيّى أو عدمه (١).

ولكنّ الصحيح هو القول الثاني ، يعني عدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً ، فلنا دعويان ، الاولى : صحة هذا القول. الثانية : بطلان سائر الأقوال.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ المرجع في المقام إنّما هو فهم العرف وارتكازهم ، والظاهر أنّ المتفاهم العرفي من القضية المغيّاة بغاية كقولنا : صم إلى الليل وكقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٢) وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغيّى إلاّفيما قامت قرينة على الدخول كما في مثل قولنا : سرت من البصرة إلى الكوفة أو ما شاكل ذلك.

وأمّا الدعوى الثانية : فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الاولى بطلان القول الأوّل والثالث ، حيث إنّه لا فرق في فهم العرف كما عرفت بين كون الغاية من جنس المغيّى وعدمه ، وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك ، وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولةً لكلمة « إلى » وكونها مدخولةً لكلمة « حتى » نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة « حتى » عاطفةً ، وموارد استعمالها لافادة كون مدخولها غايةً لما قبلها ، فانّها في أيّ مورد من الموارد إذا استعملت لادراج الفرد الخفي كما في مثل قولنا : مات

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٧٩.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

٢٨٢

الناس كلّهم حتى الأنبياء ، لا تدل على كون ما بعدها غايةً لما قبلها ، بل هي من أدوات العطف. فالنتيجة : أنّ مقتضى الظهور العرفي والارتكاز الذهني عدم دخول الغاية في المغيّى ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فالغاية قد تكون غايةً للموضوع كما في مثل قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١) وقد تكون غايةً للمتعلق كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢). وقد تكون غايةً للحكم كقوله عليه‌السلام :

« كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام » (٣) وقوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر » (٤) أو كقولنا : يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه ، فانّ الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون المتعلق أو الموضوع. وأمّا إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم ترتكز على دلالة الوصف عليه ، حيث إنّ المراد من الوصف كما عرفت مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق ، سواء أكان وصفاً اصطلاحياً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً أو ما شاكل ذلك ، وعليه فالتقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف.

وأمّا إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها تارةً يقع في مقام الثبوت ، واخرى في مقام الاثبات.

أمّا المقام الأوّل : فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند تحقق

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

٢٨٣

الغاية ، بل لا يبعد أن يقال : إنّ دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية عليه ، ضرورة أنّه لو لم يدل على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه ، يعني ما فرض غايةً له ليس بغاية وهذا خلف ، فاذن لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.

وأمّا المقام الثاني : وهو مقام الاثبات ، فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل ـ وهو المتعلق ـ دون الموضوع ، حيث إنّ حالها حال بقية القيود ، فكما أنّ الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار أنّه معنىً حدثي كذلك الظاهر من الغاية. وأمّا رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في الآية الكريمة المتقدمة حيث إنّ قوله تعالى : ( إِلَى الْمَرافِقِ )(١) في هذه الآية غاية للموضوع وهو اليد لا للمتعلق وهو الغسل ، وذلك لأجل قرينة وخصوصية في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على أنّه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حدّ المغسول من اليد ومقداره ، ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنّة على أنّ الآية في مقام تحديد المغسول ، لا في مقام بيان الترتيب ، ولذا يقول العامة (٢) بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك ، وإن كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين بالغسل منكوساً ، ونظير الآية في ذلك المثال المشهور : اكنس المسجد من الباب إلى المحراب ، فانّه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أنّ كلمة « إلى » غاية للموضوع وبيان لحدّ المسافة التي امر بكنسها ، وليست في مقام بيان الترتيب ، ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) نقل عنهم الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١١ : ١٦٠.

٢٨٤

وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(١) حيث إنّ الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو أنّ كلمة « إلى » غاية لتحديد حدّ الممسوح لا لبيان الترتيب ، ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوساً وهو الأقوى ، إذ مضافاً إلى إطلاق الآية فيه رواية خاصة. هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة.

وأمّا إذا كان الحكم فيها مستفاداً من مادة الكلام فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيه كقولنا : يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه ، فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم ، وأمّا إذا كان المتعلق مذكوراً فيه كما في مثل قولنا : يجب الصيام إلى الليل ، فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق ، فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الحكم في القضية إن كان مستفاداً من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيداً للمتعلق لا للموضوع ، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) من أنّ مفاد الهيئة معنىً حرفي ، والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد ، وذلك لما حققناه في بحث الواجب المشروط (٣) من أنّه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ، بل الوجه فيه هو أنّ القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة ، وإن كان الحكم مستفاداً من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن المتعلق

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٣) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٥٣.

٢٨٥

مذكوراً وإلاّ فلا ظهور له في شيء منهما ، فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها إلى الحكم ولو بمعونة قرينة.

نتائج هذا البحث عدّة نقاط :

الاولى : أنّ الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً ، أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن ، وسواء أكانت بكلمة « إلى » أم كانت بكلمة « حتى » ، فما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل بينهما قد عرفت نقده.

الثانية : أنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف فلا تدل على المفهوم ، وإذا كانت قيداً للحكم فحالها حال القضية الشرطية ، بل لا يبعد كونها أقوى دلالةً منها على المفهوم.

الثالثة : أنّ الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من الهيئة ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق ، فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل ، وفي القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من المادة ، فإن لم يكن المتعلق مذكوراً فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم ، وإلاّ فهي مجملة من هذه الجهة.

مفهوم الحصر

يقع الكلام في أداته ، منها : كلمة « إلاّ » ولا يخفى أنّ هذه الكلمة إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء كما هو الظاهر منها عرفاً كقولنا مثلاً :

جاء القوم إلاّزيداً ، فانّها تدل على نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ولذا يكون الاستثناء من الاثبات نفياً ومن النفي إثباتاً ، وأمّا إذا كانت صفة بمعنى « غير » فلا تدل على ذلك ، بل حالها حينئذ حال سائر قيود الموضوع ،

٢٨٦

وقد تقدم عدم دلالتها على المفهوم.

ومنها : كلمة « إنّما » وقد نص أهل الأدب (١) على أنّها من أداة الحصر وتدل عليه. هذا مضافاً إلى أنّه المتبادر منها أيضاً. نعم ، ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم حتى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها ، نظراً إلى أنّ الهيئات مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات ، مثلاً لهيئة اسم فاعل معنىً واحد في تمام اللغات بشتى أنواعها وكذا غيرها ، وهذا بخلاف المواد فانّها تختلف باختلاف اللغات. وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة أداةً للحصر ومفيدةً له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة ، والتبادر من جهة اخرى.

ثمّ إنّها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل في عكس ذلك وهو الغالب.

وعلى الأوّل فهي تستعمل في مقام التجوز أو المبالغة كقولنا : إنّما زيد عالم أو مصلح أو ما شاكل ذلك ، مع أنّ صفاته لا تنحصر به حيث إنّ له صفات اخرى غيره ، ولكنّ المتكلم بما أنّه بالغ فيه وفرض كأ نّه لا صفة له غيره فجعله مقصوراً عليه ادعاءً.

وعلى الثاني فهي تفيد الحصر كقولنا : إنّما الفقيه زيد مثلاً ، وإنّما القدرة لله تعالى وما شاكل ذلك ، فانّها تدل في المثال الأوّل على انحصار الفقه به وأنّ فقه غيره في جنبه كالعدم. وفي المثال الثاني على انحصار القدرة به ( سبحانه وتعالى ) حيث إنّ قدرة غيره في جنب قدرته كلاقدرة ، وإن كان له أن يفعل وله أن يترك ، إلاّ أنّ هذه القدرة ترتبط بقدرته تعالى في إطار ارتباط المعلول بالعلة ، وتستمد منها في كل آن بحيث لو انقطع الامداد منها في آنٍ انتفت القدرة في ذلك

__________________

(١) كما في المصباح المنير : ٢٦.

٢٨٧

الآن ، وقد أوضحنا ذلك بشكل موسّع في ضمن البحوث المتقدمة في مسألة الأمر بين الأمرين (١). فالنتيجة : أنّ هذه الكلمة غالباً تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي تفيد الحصر عندئذ. نعم ، قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضاً ، وعندئذ لا تدل على الحصر.

ثمّ إنّ العجب من الفخر الرازي (٢) حيث أنكر دلالة كلمة « إنّما » على الحصر وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ )(٣) فانّه بعد إنكاره أنّ المراد من ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ في الآية هو علي بن أبي طالب ( عليه الصلاة والسلام ) كما قال الشيعة ، بل المراد منه عامة المؤمنين قال : إنّ الشيعة قد استدلوا على أنّ الآية نزلت في حق علي عليه‌السلام بأنّ كلمة « إنّما » للحصر وتدل على حصر الولاية بالله وبرسوله وبالذين موصوفون بالصفات المذكورة في الآية ، ومن المعلوم أنّ من كان له هذه الصفات فهو الولي المتصرف في أمر الامّة وهو لا يكون إلاّ الإمام عليه‌السلام.

ودعوى أنّ المراد من الولي ليس معنى المتصرّف ، بل هو بمعنى الناصر والمحب خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، لأنّ الولاية بهذا المعنى تعم جميع المؤمنين فلاتختص بالله وبرسوله وبالذي يكون موصوفاً بالصفات المزبورة ، فاذن بطبيعة الحال يكون المراد من الولاية في الآية معنى التصرف والسلطنة ، ومن المعلوم أنّها بهذا المعنى تختص بالله وبالرسول وبالإمام وهو علي بن أبي

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤٢٩.

(٢) التفسير الكبير ١٢ : ٣٠.

(٣) المائدة ٥ : ٥٥.

٢٨٨

طالب عليه‌السلام.

ثمّ أورد على هذا الاستدلال بأ نّا لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة ، حيث إنّ عدم العموم يبتني على كون كلمة « إنّما » مفيدة للحصر ، ولا نسلّم ذلك ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ )(١) ولا شك أنّ الحياة الدنيا لها أمثال اخرى ولا تنحصر بهذا المثل.

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(٢) ولا شك في أنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها.

والجواب عنه أوّلاً : بالنقض بقوله تعالى : ( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ )(٣) وقوله سبحانه : ( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ )(٤) حيث لا شبهة في إفادة كلمة « إلاّ » الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلاّ أبو حنيفة (٥) فاذن ما هو جواب الفخر الرازي عن هاتين الآيتين. فان أجاب بأنّ عدم دلالة كلمة « إلاّ » على الحصر فيهما إنّما هو من ناحية قيام قرينة خارجية على ذلك ، وهو العلم الخارجي بعدم انحصار الحياة الدنيا بهما ، نقول بعين هذا الجواب عن الآيتين المتقدمتين وأنّ عدم دلالة كلمة « إنّما » على الحصر فيهما إنّما هو من جهة القرينة الخارجية.

__________________

(١) يونس ١٠ : ٢٤.

(٢) محمّد ٤٧ : ٣٦.

(٣) الأنعام ٦ : ٣٢.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

(٥) الإحكام للآمدي ٣ : ٩٢ ، شرح مختصر الاصول ـ للعضدي ـ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢٨٩

وثانياً : بالحل ، بيان ذلك : أنّ الحياة مرّةً تضاف إلى الدنيا واخرى تكون الدنيا صفةً لها.

أمّا على الأوّل فالمراد منها حياة هذه الدنيا في مقابل حياة الآخرة كما هو المراد في قوله تعالى : ( ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا )(١) وقوله تعالى :

( إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )(٢) فيكون المراد من الحياة فيهما هو حياة هذه الدنيا في قبال الآخرة ، كما أنّ المراد من الحيوان في قوله تعالى : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ )(٣) هو الحياة الاخروية.

وأمّا على الثاني وهو أن تكون الدنيا صفةً للحياة فالمراد منها الحياة الدانية في مقابل الحياة العالية الراقية ، وهي بهذا المعنى تارةً تطلق ويراد منها الحياة في مقابل الحياة الاخروية ، نظراً إلى أنّ الحياة الدنيوية وإن كانت حياة الأنبياء والأوصياء فهي دانية بالاضافة إلى الحياة الاخروية ، حيث إنّها حياة راقية دائمية أبدية ومملوءة بالطمأنينة والراحة. وأمّا هذه الحياة فهي موقتة وزائلة ومقدّمة لتلك الحياة الأبدية ومملوءة بالتعب وعدم الراحة فكيف يقاس هذه بتلك ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الحياة في هذه الدنيا ولو كانت حياة عالية وراقية كحياة الأنبياء والصالحين التي هي مملوءة بالعبودية والاطاعة لله سبحانه إلاّ أنّها مع ذلك تكون في جنب الحياة الاخروية دانية.

وتارة اخرى تطلق ويراد منها الحياة الدانية في هذه الدنيا ، في مقابل الحياة

__________________

(١) الجاثية ٤٥ : ٢٤.

(٢) المؤمنون ٢٣ : ٣٧.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ٦٤.

٢٩٠

الراقية فيها ، يعني أنّ الحياة في هذه الدنيا على نوعين : أحدهما حياة دنيّة حيوانية كالحياة المملوءة باللعب واللهو ونحوهما. وثانيهما حياة عالية راقية كحياة الأنبياء والأولياء ومن يتلو تلوهما ، حيث إنّ حياتهم بشتى أنواعها وأشكالها عبادة وطاعة لله تعالى.

وبعد ذلك نقول : إنّ المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة الدانية ، فالدنيا صفة لها ، وهي تنحصر باللعب واللهو ، يعني أنّ الحياة الدنيّة في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة « إنّما » ويؤيد ذلك دلالة الآيتين المتقدمتين على حصر الحياة الدنيّة بهما. هذا مضافاً إلى أنّ في الآية الكريمة ليس كلمة « إنّما » بكسر الهمزة ، بل هي بفتحها (١) ، ودلالتها على الحصر لا تخلو عن إشكال بل منع. فاذن لا وقع للاستشهاد بهذه الآية المباركة على عدم دلالة كلمة « إنّما » على الحصر. ومن هنا يظهر حال الآية الاولى.

فالنتيجة : أنّ دلالة كلمة « إنّما » على الحصر واضحة ، وإنكار الفخر دلالتها عليه مبني على العناد أو التجاهل.

ثمّ إنّه ذكر في مقام تقريب عدم دلالة الآية الثانية على الحصر بأنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها أي غير الحياة الدنيا ، ففيه ـ مضافاً إلى منع ذلك ـ أنّ الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما ، لا في مقام حصرهما بها ، فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الاخروية مانعاً عن دلالة الآية على الحصر. وإن أراد من ذلك حصولهما في الحياة العالية في هذه الدنيا وعدم انحصارهما بالحياة الدانية فيها ، فيردّه أوّلاً : منع ذلك وأنّ الحياة العالية خالية عنها. وثانياً : أنّه لا يضر بدلالة الآية على الحصر ، فانّ الآية تدل على حصر

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ الموجود في سورة الحديد الآية ٢٠ بالفتح ولكن في غيرها بالكسر ].

٢٩١

الحياة الدانية بهما ولا تدل على حصرهما بها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه وجهان.

اختار المحقق النائيني قدس‌سره الأوّل وقال : إنّ دلالتها على الحصر داخلة في الدلالات المنطوقية دون المفهومية (١) نظراً إلى أنّ ضابط المفهوم لا ينطبق على المقام ، حيث إنّ الركيزة الأساسية للمفهوم هي أنّ الموضوع فيه بعينه هو الموضوع في المنطوق ، غاية الأمر أنّ دلالة القضية على ثبوت الحكم له على تقدير ثبوت المعلّق عليه تكون بالمطابقة في المنطوق وعلى انتفائه عنه عند انتفاء المعلّق عليه بالالتزام في المفهوم ، وهذه الركيزة مفقودة في المقام ، فانّ كلمة « إنّما » في مثل قولنا : إنّما الفقيه زيد ، تدل على ثبوت الفقه لزيد ونفيه عن غيره ، فلا يكون النفي والاثبات واردين على موضوع واحد. نعم ، لا بأس بتسمية هذا بالمفهوم أيضاً ولا مشاحة فيها. كما أنّ دلالة كلمة « إلاّ » على النفي أو الاثبات مسمّاة بالمفهوم مع أنّهما غير واردين على موضوع واحد. وكيف كان فلا أثر لهذا البحث أصلاً.

وأمّا كلمة « إلاّ » فلا شبهة في وضعها لافادة الحصر ، ومن هنا ذهب بعض إلى أنّ دلالتها عليه بالمنطوق لا بالمفهوم. وكيف كان فلا خلاف في إفادتها ذلك إلاّ عن أبي حنيفة (٢) حيث ذهب إلى عدم دلالتها عليه واستدل على ذلك بقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٣.

(٢) الإحكام للآمدي ٣ : ٩٢ ، شرح مختصر الاصول ـ للعضدي ـ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

٢٩٢

وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بوجوه :

الأوّل : أنّ المراد من الصلاة في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور ، فيكون مفاده أنّ الصلاة التي كانت واجدةً للأجزاء والشرائط المعتبرتين فيها لا تكون صلاةً إلاّ إذا كانت واجدةً للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على القول بالصحيح وصلاة تامة على القول بالأعم.

ويرد عليه : أنّه واضح البطلان ، حيث إنّ لازم ذلك هو استعمال الصلاة في معانٍ متعددة حسب تعدد هذا التركيب ، فانّها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور ، وفي مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب » (٢) قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب ، مع أنّ المتفاهم العرفي منها معنىً واحد في كلا التركيبين.

الثاني : أنّ عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب إنّما هو من جهة وجود القرينة ولولاه لكانت دالة عليه.

وفيه : أنّه لا قرينة هنا حيث إنّه لا فرق بين استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد.

ولعلّه لأجل ذلك عدل عنه وأجاب بجواب ثالث وهو أنّ كلمة « إلاّ » في مثل هذا التركيب تدل على نفي الامكان ، يعني أنّ الصلاة لا تكون ممكنةً بدون الطهور ومعه تكون ممكنة.

وفيه : أنّ موارد استعمالاتها تشهد بأ نّها تستعمل للنفي الفعلي أو الاثبات كذلك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٠.

(٢) المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥.

٢٩٣

وبكلمة اخرى : أنّ ظاهر هذا التركيب كمثل قولنا : لا أقرأ القرآن إلاّمع الطهارة ولا أزور الحسين عليه‌السلام إلاّحافياً ونحو ذلك ، هو أنّ خبر « لا » المقدّر فيه موجود لا ممكن. فالنتيجة : أنّه لا يمكن الاعتماد على شيء من هذه الوجوه ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب هو أنّ مردّه إلى قضيتين : ايجابية وسلبية ، مثلاً قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » ينحل إلى قولنا : إنّ الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة وإذا تحققت فلا محالة تكون مع الطهارة ، وكذا قولنا : لا آكل الطعام إلاّمع الملح ، فانّه ينحل إلى قولنا : إنّ الأكل لا يتحقق بدون ملح ، وأ نّه متى تحقق تحقق مع ملح ، وليس [ معنى ] قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » أنّ الطهور متى تحقق تحققت الصلاة ، وكذا قولنا : لا آكل الطعام إلاّمع الملح ، ليس معناه أنّ الملح متى تحقق تحقق الأكل ، ومنه قولنا : لا اطالع الكتب إلاّكتب الفقيه ، فانّ معناه ليس أنّه متى تحقق كتب الفقيه تحققت المطالعة. ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجملة في مقام الاخبار أو الانشاء ، كما أنّ المتبادر من جملة : « لا صلاة إلاّبطهور » هو أنّها مسوقة لانشاء شرطية الطهور للصلاة. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ المتفاهم عرفاً من أمثال هذه التراكيب ما ذكرناه دون ما توهمه أبو حنيفة.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد ، فانّ دلالتها عليه بمقتضى فهم العرف وارتكازهم ، ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال ، والسبب فيه ما عرفت من أنّ الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال.

ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأنّ خبر « لا » بما أنّه مقدّر في

٢٩٤

الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدّر ممكناً أو موجوداً ، فان كان الأوّل فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى ، وإن كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إله آخر ، حيث إنّ نفي الوجود أعم من نفي الامكان.

والجواب عنه : هو أنّ إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه ، نظراً إلى أنّ الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالامكان الخاص ، فانّ المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم ، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له ، فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري ( سبحانه وتعالى ) وإن لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري ، فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما. والحاصل : أنّ إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالامكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه ، كما أنّ عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه ، وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.

وقد يستدل على ذلك كما عن بعض : بأنّ الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال إمّا أن يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضي أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع ، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود ، ضرورة أنّ وجوده لا يعقل أن يستند إلى وجود المقتضي مع توفر الشرط وعدم المانع فيه وإلاّ لانقلب الواجب ممكناً ، بل نفس تصوّره يكفي للتصديق بوجوده ، ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين عند العرفاء ، ومدلوله هو أنّ نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج وإلاّ لم يكن التصور تصور مفهوم واجب الوجود وهذا خلف ، ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة الغرب من أنّ مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان.

٢٩٥

وكيف كان فلا شبهة في أنّ إمكانه تعالى مساوق لوجوده وبالعكس ، فنفي إمكانه عين نفي وجوده كما أنّ نفي وجوده عين نفي إمكانه. ومن هنا يظهر حال صفاته ( سبحانه وتعالى ) فانّه إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب وإلاّ امتنع.

ثمّ إنّ الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو أنّ الخبر المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا : لا رئيس في هذا البلد ، وقولنا : لا رجل في الدار وهكذا ، فانّ المتفاهم العرفي منها هو أنّ الخبر المقدّر لكلمة « لا » فيها موجود لا ممكن ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى :

أنّ المستفاد من كلمة التوحيد أمران ، أحدهما : التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية. وثانيهما : التصديق بوحدانيته ذاتاً وصفةً ومعبوداً وإليه أشار بقوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) وقوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فهذان الأمران معتبران في كون شخصٍ مسلماً فلو عبد غيره تعالى فقد خرج عن ربقة الاسلام.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج :

الاولى : أنّ كلمة « إلاّ » إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء ، وأمّا إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.

الثانية : أنّ كلمة « إنّما » وضعت للدلالة على إفادة الحصر ، للتبادر عند العرف وتصريح أهل الأدب بذلك وإن لم يكن لها نظائر في لغة الفرس ليرجع إليها ، إلاّ أنّه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.

الثالثة : أنّ كلمة « إنّما » قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة فحينئذ لا تدل على الحصر ، بل تدل على المبالغة ، وقد تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كما هو الغالب وحينئذ تدل على الحصر. نعم ، قد تستعمل في هذا المقام أيضاً في المبالغة.

٢٩٦

الرابعة : أنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة « إنّما » على الحصر ، وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) وقد عرفت ما في إنكاره وأ نّه لا محمل له إلاّ الحمل على العناد أو التجاهل.

الخامسة : أنّه لا ثمرة للبحث عن أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أصلاً وإن اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الأوّل ، وقد تقدم وجهه موسّعاً.

السادسة : لا شبهة في دلالة كلمة « إلاّ » على الحصر وأ نّها موضوعة لذلك ، ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة وأ نّه استدل على عدم إفادتها الحصر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّبطهور » ، وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب الكفاية قدس‌سره بعدة وجوه ، وقد عرفت عدم تمامية شيء منها ، والصحيح في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلاحظ.

السابعة : أنّ كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي ، وليست دلالتها مستندةً إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية قدس‌سره. والاشكال على دلالتها بأنّ الخبر المقدّر فيها لا يخلو من أن يكون موجوداً أو ممكناً ، وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحيد مدفوع بما تقدم بشكل موسع.

الثامنة : أنّ الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ خبر « لا » المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها ، هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر.

٢٩٧

مفهوم العدد

إن اريد به أنّ للقضية مثل : تصدّق بخمسة دراهم دلالة على أنّه لا يجزئ التصدق بأقل من ذلك ، فالأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّه ليس من جهة دلالة العدد على المفهوم ، بل من جهة أنّه لم يأت بالمأمور به ، يعني أنّ المأمور به لا ينطبق على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزئاً ، نظير ما إذا قال المولى : أكرم زيداً مثلاً في يوم الجمعة ، فلو أكرمه في يوم الخميس لم يجزئ لعدم انطباق المأمور به على المأتي به ، وكذا إذا قال : صل إلى القبلة فصلّى إلى جهة اخرى ، وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ قضية تصدّق بخمسة دراهم لا تدل إلاّعلى وجوب التصدق بها ، وأمّا بالاضافة إلى الأقل فهي ساكتة نفياً وإثباتاً ، يعني لا تدل على نفي وجوب التصدق عنه ولا على إثباته ، وأمّا عدم الاجزاء به فهو من ناحية أنّ المأمور به في هذه القضية لا ينطبق عليه ، وأمّا بالاضافة إلى الزائد على هذا العدد فان قامت قرينة على أنّ المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد بشرط لا بالاضافة إليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد ، يعني أنّ التصدق بالستّة غير واجب ، بل هو مضر ، نظير الزيادة في الصلاة ، وإن لم تقم قرينة على ذلك ، فمقتضى إطلاق كلامه أنّ الزيادة لا تكون مانعةً عن حصول المأمور به في الخارج ، وأمّا بالاضافة إلى حكمه [ أي ] الزائد فهو ساكت عنه نفياً وإثباتاً يعني لا يدل على وجوبه ولا على عدم وجوبه ولا على استحبابه ، فحال العدد من هذه الناحية حال اللقب.

٢٩٨

العام والخاص

قبل الوصول إلى محل البحث لا بأس بالاشارة إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً ، وأمّا اصطلاحاً فالظاهر أنّه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي ، ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله.

الثانية : ما هو الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٢) وما شاكلهما ، حيث إنّه يدل على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله؟ أقول : الفرق بينهما هو أنّ دلالة العام على العموم والشمول بالوضع ودلالة المطلق على ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وتترتب على هذه النقطة من الفرق ثمرات تأتي في ضمن البحوث الآتية.

الثالثة : أنّ العموم ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي ، فالحكم في الأوّل وإن كان واحداً في مقام الانشاء والابراز إلاّ أنّه في مقام الثبوت والواقع متعدد بعدد أفراد العام ، ففي مثل قولنا : أكرم كل عالم ، وإن كان الحكم في مقام الانشاء واحداً إلاّ أنّه بحسب الواقع ينحل بانحلال أفراد موضوعه ، فيكون في قوة قولنا : أكرم زيداً العالم وأكرم بكراً العالم وهكذا ، فيثبت لكل فردٍ حكم مستقل غير مربوط بالحكم الثابت لآخر.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

٢٩٩

وفي الثاني واحد في مقامي الاثبات والثبوت باعتبار أنّ المتكلم قد جعل المجموع من حيث المجموع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه.

وفي الثالث أيضاً كذلك ، حيث إنّ الحكم فيه تعلق بصرف وجود الطبيعة السارية إلى جميع أفرادها كقولنا مثلاً : أكرم أيّ رجل شئت ، والمفروض أنّ صرف الوجود غير قابل للتعدد ، وعليه فلا محالة يكون الحكم المتعلق به واحداً.

الرابعة : ما هو منشأ هذا التقسيم ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام ، حيث إنّه يتعلق به تارةً على نحو يكون كل فردٍ موضوعاً على حدة للحكم ، واخرى يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فردٍ جزء الموضوع لاتمامه ، وثالثةً يكون كل فردٍ موضوعاً على البدل.

وفيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، والسبب فيه : هو أنّ المولى في مرحلة جعل الحكم إذا لم يلاحظ الطبيعة بما هي مع قطع النظر عن أفرادها ، أي من دون لحاظ فنائها فيها ، ولم يجعل الحكم عليها كذلك كما هو الحال في القضية الطبيعية كقولنا : الانسان نوع والحيوان جنس وما شاكلهما التي لا صلة لها بالعام والخاص ، فبطبيعة الحال تارةً يلاحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الكثرة ، يعني يلاحظ الأفراد الكثيرة واقعاً وحقيقةً في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الأفراد فيكون كل واحد منها موضوعاً مستقلاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.

٣٠٠