محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

أنّ عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن تكون له خصوصية ، فأخذه في لسان الروايات إنّما هو بعنوان المعرّف لما هو الموضوع له واقعاً ، ثمّ قال : وتدل عليه الروايات أيضاً.

وفيه : ما تقدم (١) من أنّ ظاهر الروايات هو أنّ عنوان الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة لا أنّه كناية عن الأكل والشرب ، فحمله على المعرّف والكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة على الفرض. وأمّا ما أفاده قدس‌سره من دلالة الروايات على ذلك فيردّه : أنّا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده قدس‌سره من الروايات الدالة على ذلك. وبعد ذلك نقول :

أمّا الكلام في المقام الأوّل : وهو التداخل في الأسباب فيقوم على أساس أنّ القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل أو في عدمه ، فلو أتى المكلف أهله في نهار شهر رمضان مرّات عديدة ، فان قلنا بالأوّل لم تجب عليه إلاّ كفارة واحدة ، وإن قلنا بالثاني وجبت عليه كفارات متعددة.

وذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما إليك نصه : والتحقيق أنّه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه ، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط ، كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقةً أو وجوداً محالاً ، ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل : إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ، أو فيما إذا بال مكرراً أو نام كذلك ، محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح

__________________

(١) في ص ٢٥٩.

٢٦١

الاستحالة كالمتضادين ، فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرف فيه إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أنّه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط (١) إلاّ أنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها كما في : أكرم هاشمياً وأضف عالماً ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ، ضرورة أنّه بضيافته بداعي أمرين يصدق أنّه امتثلهما ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له امتثال كل منهما على حدة كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم غير الهاشمي (٢).

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

١ ـ أنّ القضية الشرطية في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط في القضية بنفسه سبباً للجزاء أو يكون كاشفاً عن السبب.

٢ ـ أنّ الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن ، نظراً إلى أنّ متعلق الجزاء بما أنّه حقيقة واحدة فلازم الأخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل كاجتماع المتضادين.

٣ ـ أنّه على القول بالتداخل لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، وإمّا أن يلتزم

__________________

(١) [ في المصدر إضافة قوله : متصادقة على واحد ، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددةحسب تعدد الشروط ... ].

(٢) كفاية الاصول : ٢٠٢.

٢٦٢

بأنّ متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلاّ أنّه متعدد واقعاً.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط : أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة. وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها ـ مضافاً إلى ما سوف يأتي في ضمن البحوث التالية ـ ما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا مانع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد ، غاية الأمر أنّه يوجب التأكد والاندكاك وصيرورتهما حكماً واحداً مؤكداً. ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة حيث إنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، كما أنّه لا معنى لدعوى أنّ الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة في الواقع ونفس الأمر ، هذا.

ولشيخنا الاستاذ ( قدس‌سره ) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة وإليك نصه : والحق هو القول بعدم التداخل مطلقاً ، وتوضيح ذلك إنّما يتم ببيان أمرين :

الأوّل : ما تقدم سابقاً من أنّه لا إشكال في أنّ كل قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية ، كما أنّ كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد ، وإنّما الاختلاف في كيفية التعبير عنه ، وعليه فكما أنّ الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة ، إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له ، كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه ، لأنّ أدوات الشرط اسمية كانت أم حرفية إنّما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض ، فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من جهة الانحلال أصلاً ، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجوداً ، كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج.

٢٦٣

وأمّا تعدد الحكم بتعدد شرطه جنساً فهو إنّما يستفاد من ظهور كل من القضيتين في أنّ كلاً من الشرطين مستقل في ترتب الجزاء عليه مطلقاً ، فانّ ظاهر قضية : إذا بلت فتوضأ ، هو أنّ وجوب الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلاً ، وكذلك ظاهر قضية : إذا نمت فتوضأ ، هو ترتب وجوب الوضوء على النوم ولو قارنه أو سبقه البول مثلاً ، فاطلاق كل من القضيتين يستفاد منه استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير ، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج ووجودهما فيه.

الثاني : أنّ تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلاّ إيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق ، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من وجودات الطبيعة ، يكون الاتيان به مجزئاً في مقام الامتثال عقلاً. وأمّا توهم أنّ ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات فهو فاسد ، إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادة ، ضرروة أنّ المادة لم توضع إلاّلنفس الماهية المعرّاة عن الوجود والعدم. وأمّا الهيئة فهي لا تدل إلاّعلى طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهراً على أوّل الوجودات ، وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادةً ، وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه ، بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلقه خارجاً ونقض عدمه المطلق ، فاذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما إيجاد تلك الماهية ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرتين ، كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين

٢٦٤

بماهية واحدة ، فتعدد الايجاد تابع لتعدد الارادة تشريعيةً كانت أم تكوينية.

وبالجملة : أنّ كل أمر في نفسه لا يدل إلاّعلى الطلب المقتضي لايجاد متعلقه ، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدداً فليس في الأمر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعاً. نعم ، إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد الطلب وقد فرض تعلق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحداً قهراً ، إلاّ أنّه من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه ، فاذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب ، أو فرض تعدد القضية الشرطية في نفسها ، كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب ـ أعني به عدم المقتضي للتعدد ـ ووارداً عليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، لكان ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد. فاذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب ، كان هذا الظهور لكونه لفظياً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب. ومن هنا يظهر الفرق بين المقام الذي التزمنا فيه بتعدد الطلب ، ومسألة تعلق الأمر بشيء واحد مرتين كما إذا قال المولى : صم يوماً ، ثمّ قال : صم يوماً ، التي التزمنا فيها بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم ، وذلك لأنّ ظهور الأمر الثاني في التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهوراً لفظياً ليكون قرينة على صرف ظهور وحدة المتعلق في وحدة الحكم ، بل هو من الظهورات السياقية ، فكما يمكن أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد ، كذلك يمكن أن تكون وحدة المتعلق قرينة على الوحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس ، ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد على المتيقن فتكون النتيجة نتيجة التأكيد. وهذا بخلاف المقام فان ظهور القضية الشرطية في تعدد الحكم بما أنّه ظهور لفظي

٢٦٥

يكون رافعاً لظهور الجزاء في وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره نقطتان :

الاولى : أنّ القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه ، حيث إنّ الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه ، ولا شبهة في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه ، ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الأفراد أو الأجناس.

الثانية : أنّ تعلق الطلب بشي والبعث نحوه يقتضي إيجاده في الخارج ونقض عدمه ، فاذا فرض تعلق الطلب به ثانياً فهو يقتضي في نفسه إيجاده كذلك ، نظراً إلى أنّ تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو الفعل لا محالة. ودعوى أنّ متعلق الطلب والبعث بما أنّه صرف الوجود فهو غير قابل للتكرر ، وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب واحد ، بمعنى أنّ الطلب الثاني يكون مؤكداً للأوّل خاطئة جداً ، وذلك لأن متعلق الطلب والبعث إيجاد الطبيعة ، ومن المعلوم أنّ إيجادها يتعدد بتعدد وجوداتها في الخارج ، فيكون لكل وجود منها فيه إيجاد خاص فلا مانع من تعلق كل طلب بايجاد فرد منها ، ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني على التأكيد ، فانّه يحتاج إلى قرينة وإلاّ فكل بعث نحو فعلٍ يقتضي في نفسه انبعاث المكلف إلى إيجاده ، غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي إيجاده متعدداً فيكون إيجاد كل فرد متعلقاً لبعث ، كما هو مقتضى انحلال الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.

فالنتيجة على ضوء هاتين النقطتين : هي أنّه لا موضوع للتعارض بين ظهور

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩.

٢٦٦

القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف ، حيث لا ظهور للجزاء في ذلك ، بل قد عرفت أنّ تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب ، فالحمل على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال ، كما إذا علم من الخارج أنّ الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الأمرين ، كما إذا كرّر نفس السبب في القضية الاولى مرّةً ثانية من دون التقييد بقيد كمرّةً اخرى أو نحوها ، مثل ما إذا قال المولى : إن جامعت فكفّر ثمّ قال : إن جامعت فكفّر ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون الأمر في القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس ، حيث إنّ ذكر سبب واحد لكليهما معاً قرينة على ذلك.

وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الأمر ظاهراً في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقان بطبيعة واحدة ، فاذا أتى المكلف بها مرّةً سقط أحدهما من دون تعيين ، وإذا أتى بها مرّةً ثانية سقط الآخر ، ونظير ذلك : ما إذا أتلف أحد درهماً من شخص واستقرض منه درهماً آخر ، فحينئذ الثابت في ذمته درهمان : أحدهما من ناحية الاتلاف والآخر من ناحية القرض ، فاذا أدّى أحد الدرهمين سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في أنّ الساقط هو الدرهم التالف أو الدرهم القرض ، حيث إنّه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف ثبوتهما ـ وهو الذمة ـ وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك ، ففي مثل ذلك لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين ، لفرض عدم واقع معيّن لهما حتى في علم الله تعالى. وكذا الحال فيما إذا كان مديوناً بصلاتين متماثلتين بناءً على عدم اعتبار الترتيب بينهما.

والنكتة في ذلك : أنّ ما ثبت في الذمة من تكليف كالصلاة والصوم ونحو

٢٦٧

ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك ، فلا بدّ في مقام الوفاء من الاتيان بما ينطبق عليه ما له طابع خاص وإلاّ لم يف به ، كما إذا نذر صوم يومي الخميس والجمعة مثلاً حيث إنّ لكل منهما طابعاً خاصاً في الواقع فلا ينطبق على غيره. وأمّا إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شيء منهما ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله سبحانه باعتبار أنّه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذمة ، فعندئذ لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما لا بعينه من دون تمييز ، حيث لا يتوقف سقوطه على وجود ميز في الواقع.

ودعوى أنّه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال المقام ، فانّ الحكم بسقوط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجّح والحكم بسقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شيء منهما خاطئة جداً ، حيث إنّ المفروض أنّه لا تعيّن ولا ميز بينهما في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله تعالى ليقال إنّ الساقط هذا أو ذاك ، فانّ الاشارة تستدعي أن يكون بينهما ميز في الواقع ، وقد عرفت عدمه. فاذن لا محالة يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعيّن في الواقع لانطباقه على المأتي به في الخارج جزماً وهو واضح.

أمّا الكلام في المقام الثاني ـ وهو التداخل في المسببات ـ فلا شبهة في أنّ مقتضى القاعدة هو عدم التداخل ، لوضوح أنّ تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال ، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل ، حيث قد ثبت أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجباً. وأمّا فيما لم يقم

٢٦٨

دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال ، كما إذا وجبت على المكلف كفارة متعددة من ناحية أنّه أتى أهله مثلاً في نهار شهر رمضان مرّات متعددة ، أو من ناحية اخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة واحدة عن الجميع حيث قد عرفت أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط التكاليف المتعددة بامتثال واحد.

نعم ، يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضيتي أكرم عالماً وأكرم هاشمياً ، فانّ مقتضى القاعدة فيه هو سقوط كلا التكليفين معاً باتيان المجمع وامتثاله ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ لانطباق متعلق كل منهما عليه ، ومن الطبيعي أنّه لا يعتبر في تحقق الامتثال عقلاً إلاّ الاتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.

وبكلمة اخرى : أنّ مقتضى إطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز امتثالهما منفرداً ومجتمعاً ، حيث إنّ إكرام العالم لا يكون مقيداً بغير الهاشمي وبالعكس ، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق كل منهما ، وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ المقام ليس من تأكد الحكم في مورد الاجتماع أصلاً كما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وذلك لأنّ التأكد في أمثال المقام إنّما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد الاجتماع ، كما إذا كان التكليف في كل من العامين من وجه انحلالياً ، فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلّقاً لكلا الحكمين معاً فيحصل التأكد بينهما فيصبحان حكماً واحداً مؤكداً ، لاستحالة بقاء كل منهما بحدّه ، وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدلياً كما هو المفروض في المقام ، فعندئذ لا يكون المجمع

٢٦٩

بنفسه مورداً لكل من الحكمين ، بل هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما ، حيث إنّ متعلق التكليف في العموم البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات ، فالفرد المأتي به ليس بنفسه متعلقاً للأمر ليتأكد طلبه عند تعلق الأمرين به ، بل هو مصداق لما يتعلق به الطلب والأمر. فالنتيجة : أنّ التداخل في أمثال المقام على القاعدة فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة.

وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموماً من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقاً بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات ، أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك. والأوّل كالنسبة بين صوم الاعتكاف ، وصوم شهر رمضان أو قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه ، حيث إنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فاذا أتى المكلف بالمجمع بينهما فانّه يجزئ عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليه. والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب ، حيث إنّ الأمر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال باتيان المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب ، فانّها تجزئ عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليها ، وكذا الحال بين صلاة جعفر ونافلة المغرب.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط ، وأمّا انتفاء شخص الحكم المعلّق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم ، فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط. وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من المفهوم في شيء ، ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد من الجزاء

٢٧٠

مدلولاً إسمياً أو حرفياً.

الثانية : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً ، كان تعدده على نحو التركيب أو التقييد.

الثالثة : أنّ الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلّق على الشرط قد يكون انحلالياً وقد يكون غير انحلالي ، وعلى الأوّل فهل مفهومه إيجاب جزئي أو كلي؟ اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره الثاني ، والصحيح هو الأوّل وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسّع.

الرابعة : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه هو أنّ الشرط أحدهما ، حيث إنّها تقتضي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة أو.

الخامسة : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك ، وقد تقدم أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين ، فالتداخل يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.

السادسة : أنّ كون الأسباب الشرعية معرّفات لا يرجع عند التحليل إلى معنىً صحيح ومعقول.

السابعة : أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان كل من الشرط والجزاء قابلاً للتعدد والتكرر وإلاّ فلا موضوع لهذا البحث على ما عرفت بشكل موسّع.

الثامنة : أنّ مقتضى القاعدة التداخل في المسبب فيما إذا كانت النسبة بين

٢٧١

الدليلين عموماً من وجه وكان العموم فيهما بدلياً ، فانّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع يجزئ عن كلا التكليفين ، لانطباق متعلق كل منهما عليه.

مفهوم الوصف

لتنقيح محل النزاع ينبغي لنا تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ محل الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضية بأن يكون مذكوراً فيها كقولنا : أكرم إنساناً عالماً ، أو رجلاً عادلاً ، أو ما شاكل ذلك. وأمّا الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا : أكرم عالماً أو عادلاً أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم ، ضرورة أنّه لو كان داخلاً في محل الكلام لدخل اللقب فيه أيضاً ، لوضوح أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية ، فكما أنّ الأوّل لا يدل على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني ، ومجرد أنّ الوصف ينحل بتعمل من العقل إلى شيئين : ذات ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقية لا يوجب فارقاً بينه وبين اللقب في هذه الجهة ، حيث إنّ هذا الانحلال لا يتعدى عن افق النفس إلى افق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الاثبات والدلالة أصلاً ، حيث إنّ المذكور فيها شيء واحد وهو الوصف دون موصوفه.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالته على المفهوم ، والسبب فيه هو أنّ الحكم الثابت في القضية لعنوانٍ اشتقاقياً كان أو ذاتياً فلا تدل القضية إلاّعلى ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلاً فيه ، وأمّا انتفاؤه عن غيره فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة ، بل لو دلّ على المفهوم لكان

٢٧٢

الوصف الذاتي أولى بالدلالة ، نظراً إلى أنّ المبدأ فيه مقوّم للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزماً ، وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي فانّ المبدأ فيه حيث إنّه خارجي غير مقوّم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بانتفائه. فالنتيجة أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف ، فانّ ملاك عدم الدلالة فيهما واحد.

الثاني : أنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا : أكرم إنساناً ضاحكاً وما شاكله ، واخرى يكون أعم منه مطلقاً كقولنا : أكرم إنساناً ماشياً ، وثالثةً يكون أخص منه كذلك كقولنا : أضف انساناً عالماً ، ورابعةً يكون أعم منه من وجه كقوله عليه‌السلام : « في الغنم السائمة زكاة » (١).

أمّا الأوّل والثاني : فلا إشكال في خروجهما عن محل النزاع والوجه فيه ظاهر ، وهو أنّ الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم ، حيث إنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وهذا فيما لا يوجب انتفاؤه انتفاء الموصوف ، والمفروض أنّ في هاتين الصورتين يكون انتفاؤه موجباً لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم.

وأمّا الثالث : فلا إشكال في دخوله في محل الكلام ، فانّ ما ذكرناه من الملاك لدلالته على المفهوم موجود فيه.

وأمّا الرابع : فهو أيضاً داخل في محل الكلام حيث إنّه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال المتقدم بخصوص السائمة ، فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه ، فلا زكاة في الغنم المعلوفة. نعم ، لا يدل على انتفائه عن غير

__________________

(١) الوسائل ٩ : ١١٨ / أبواب زكاة الأنعام ب ٧ ( نقل بالمضمون ).

٢٧٣

هذا الموضوع كالابل المعلوفة كما نسب ذلك إلى بعض الشافعية (١) فنفى وجوب الزكاة عن الابل المعلوفة استناداً إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على انتفاء حكمها ، يعني وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقاً ولو كان موضوعاً آخر ، ووجه عدم دلالته على ذلك واضح ، لما عرفت من أنّ معنى دلالته على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وأمّا غير المذكور فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفياً ولا إثباتاً ، فما نسب إلى بعض الشافعية لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.

وبعد ذلك نقول : إنّ الصحيح هو عدم دلالة الوصف على المفهوم ، بيان ذلك : أنّ دلالة القضية على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وبما أنّ الوصف في القضية يكون قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم أصلاً ، فانّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على نفيه عن غيره ، ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل بوجه على نفيه عن غيره ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع شيئاً واحداً كاللقب أو كالوصف غير المعتمد على موصوفه أو يكون مقيداً بقيد كالموصوف المقيد بوصف خاص ، فانّ ملاك عدم الدلالة على المفهوم في الجميع واحد ، وهو أنّ ثبوت حكم لموضوع خاص وإن كان مركباً أو مقيداً لا يدل على نفيه عن غيره ، فلا فرق بين قولنا : أكرم رجلاً وأكرم رجلاً عادلاً ، حيث إنّهما يشتركان في نقطة واحدة وهي الدلالة على ثبوت الحكم لموضوع خاص ، غاية الأمر أنّ الموضوع في الجملة الثانية مقيد بقيد خاص فتدل على ثبوت الحكم له ولا تدل على نفيه عن غيره كما إذا كان الموضوع واحداً.

__________________

(١) المنخول : ٢٢٢.

٢٧٤

ومن ضوء ذلك يظهر الفرق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية ، نظراً إلى أنّ الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم دون الموضوع فيكون الحكم معلّقاً عليه فلأجل ذلك تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط ، وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فانّه راجع إلى الموضوع فيها دون الحكم.

فالنتيجة أنّ دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أن يكون قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه وإلاّ فلا دلالة له عليه أصلاً.

ولكن مع ذلك قد يستدل على المفهوم بوجوه :

الأوّل : أنّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغياً وهو مستحيل في حقّ المتكلم الحكيم ، فاذن لا مناص من الالتزام بدلالته عليه.

ويرد عليه : أنّه مبني على إحراز أنّ الداعي للآتي به ليس إلاّدخله في الحكم نفياً وإثباتاً حدوثاً وبقاءً بمعنى أنّه علة منحصرة له ، فاذا كان كذلك فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه.

ولكن من المعلوم أنّ هذا الاحراز يتوقف أوّلاً : على كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وقد عرفت أنّ الأمر بالعكس تماماً.

وثانياً : على الالتزام بأنّ إثبات حكم لموضوع خاص يدل على انتفائه عن غيره ، وقد مرّ أنّه لا يدل على ذلك ، بل لا يكون فيه إشعار به فضلاً عن الدلالة.

وثالثاً : على أن لا يكون الداعي له أمراً آخر حيث إنّ فائدته لا تنحصر بما ذكر.

ورابعاً : على أنّه لا يكفي في الخروج عن كونه لغواً الالتزام بدلالته على اختصاص الحكم بحصة خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو الاطلاق ،

٢٧٥

والمفروض أنّه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الالتزام بدلالته على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء ـ.

فالنتيجة : أنّ هذا الوجه ساقط فلا يمكن الاستدلال به على إثبات المفهوم للوصف.

الثاني : أنّ الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند الاطلاق.

ويرد عليه : أنّ مجرد الاشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لاثبات المفهوم جزماً ، حيث إنّه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون متبعة عندهم ، بل لا بدّ في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضية في كون الوصف علةً منحصرةً للحكم المذكور فيها ، ومن الطبيعي أنّ إثبات ظهورها في كونه علةً في غاية الاشكال بل خرط القتاد ، فما ظنك بظهورها في كونه علةً منحصرةً ، كيف حيث إنّ مردّ هذا الظهور إلى كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق وأ نّه يدور مداره وجوداً وعدماً وبقاءً وارتفاعاً ، وقد تقدم أنّ القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم. فالنتيجة أنّ مجرد الاشعار بالعلية غير مفيد وما هو مفيد ـ وهو الظهور فيها ـ فهو غير موجود.

الثالث : أنّ القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيد ، حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره ، وبدون توفر هذه النكتة لا موجب له ، ومن الطبيعي أنّ هذه النكتة بعينها هي نكتة دلالة الوصف على المفهوم.

ويرد عليه : أنّ نكتة حمل المطلق على المقيد غير تلك النكتة ، فانّها نكتة

٢٧٦

دلالة القيد على المفهوم وقد عرفت عدم توفرها فيه وأ نّه لا يدل على المفهوم أصلاً. وأمّا حمل المطلق على المقيد فلا يتوقف على تلك النكتة ، فانّه على ضوء نظرية المشهور يتوقف على أن يكون التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصرف وجوده ، ففي مثل ذلك إذا تعلق التكليف في دليل آخر بحصة خاصة منه وعلم من القرينة أنّ التكليف واحد حمل المطلق على المقيد ، نظراً إلى أنّ المقيد قرينة بنظر العرف على التصرف في المطلق ، ومن المعلوم أنّه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم أي نفي الحكم عن غير مورده ، ضرورة أنّ المقيد لا يدل إلاّ على ثبوت الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه ، ومع ذلك يحمل المطلق على المقيد. وأمّا إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بمطلق وجوده المستلزم انحلاله بانحلال وجوداته وأفراده خارجاً ، ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك كما إذا ورد في دليل : أكرم كل عالم ، وورد في دليل آخر : أكرم كل عالم عادل ، فلا موجب لحمل الأوّل على الثاني أصلاً ، حيث إنّ النكتة التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أن يكون كل منهما واجباً ، غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل أفراد الواجب.

وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد بين ما كان التكليف واحداً أو متعدداً ، فأيضاً لا يتوقف هذا الحمل على دلالة القيد على المفهوم يعني نفي الحكم عن غير مورده ، بل يكفي فيه دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الاطلاق ، وسنبيّن إن شاء الله تعالى عن قريب أنّه لا شبهة في دلالته على ذلك كما أنّه لا شبهة في عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده.

٢٧٧

وعلى الجملة : سوف نذكر في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله (١) أنّ ظهور المطلق في الاطلاق كما يتوقف حدوثاً على عدم دليل صالح للتقييد كذلك بقاءً ، حيث إنّ ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الواضح أنّها لا تجري مع وجود الدليل الصالح للتقييد ، والمفروض أنّ دليل المقيد يكون صالحاً لذلك عرفاً. ومما يدل على أنّ حمل المطلق على المقيد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم ، هو أنّه يحمل المطلق على المقيد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه ، كما إذا ورد في دليل : أكرم عالماً ، وورد في دليل آخر : أكرم فقيهاً ، يحمل الأوّل على الثاني مع أنّه لا يدل على المفهوم أصلاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ النكتة التي ذكرناها في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفاً ـ وهي تعليق الحكم فيها على الشرط تعليقاً مولوياً ـ غير متوفرة في القضية الوصفية ، حيث إنّ الحكم فيها غير معلّق على الوصف ، يعني أنّ الوصف ليس قيداً للحكم كالشرط بل هو قيد للموضوع أو المتعلق ، ومن المعلوم أنّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على انتفائه عن غيره. فما ذكرناه لحدّ الآن هو المعروف والمشهور بين الأصحاب في تقرير المسألة.

ولكنّ الصحيح فيها هو التفصيل ، بيان ذلك : أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم تارةً بمعنى أنّ تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على انتفاء الحكم عن غيره ، فلو ورد في الدليل : أكرم رجلاً عالماً يدل على انتفاء وجوب الاكرام عن غير مورده ، يعني عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر. واخرى بمعنى أنّ تقييده به يدل على عدم ثبوت الحكم له

__________________

(١) لاحظ ص ٥٣٦.

٢٧٨

على نحو الاطلاق ، أو فقل : إنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الاطلاق وأ نّه غير ثابت له كذلك.

فإن كان النزاع في المعنى الأوّل فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى ، ضرورة أنّ قولنا : أكرم رجلاً عالماً لا يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى منه كالرجل العادل أو الهاشمي أو ما شاكل ذلك ، لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا : أكرم رجلاً عالماً ، وقولنا : أكرم رجلاً عادلاً مثلاً بنظر العرف أصلاً ، فلو دلت الجملة الاولى على المفهوم ـ أي نفي الحكم عن حصص اخرى منه ـ لكان بينهما تنافٍ لا محالة. وقد تقدم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسع.

وإن كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أنّه يدل على المفهوم بهذا المعنى. ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلقه إلاّ أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه ، ففي مثل قولنا : أكرم رجلاً عالماً ، يدل على أنّ وجوب الاكرام لم يثبت لطبيعي الرجل على الاطلاق ولو كان جاهلاً ، بل ثبت لخصوص حصة خاصة منه ـ وهي الرجل العالم ـ وكذا قولنا : أكرم رجلاً هاشمياً ، أو أكرم عالماً عادلاً وهكذا ، والضابط أنّ كل قيد اتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق ، يعني أنّ الحكم غير ثابت له إلاّمقيداً بهذا القيد لا مطلقاً ، وإلاّ لكان القيد لغواً ، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة.

والحاصل : أنّ مثل قولنا : أكرم رجلاً عالماً وإن لم يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى من الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك آخر ، إلاّ أنّه لا شبهة في دلالته على أنّ وجوب الاكرام غير ثابت لطبيعي الرجل على نحو الاطلاق.

٢٧٩

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر ، فقد عرفت أنّها لا تدل على ذلك بوجه ، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة. وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أنّها تدل على ذلك جزماً ، حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلاّفيما قامت قرينة على خلافه. ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه وغير المعتمد عليه كقولنا : أكرم عالماً مثلاً ، فانّه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإن انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم إلاّ أنّه لا أثر له في مقام الاثبات بعد ما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان : أحدهما موصوف والآخر صفة له.

ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها قد اهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً ، مع أنّ لها ثمرة مهمة في الفقه ، منها : ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث إنّ المشهور قد خصّوا تلك المسألة ـ فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين ـ بما إذا كان التكليف فيهما واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً فلا يحملوا المطلق على المقيد. وأمّا على ضوء ما ذكرناه من النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعدداً ، كما إذا ورد في دليل : لا تكرم عالماً ، وورد في دليل آخر : لا تكرم عالماً فاسقاً ، فانّه يحمل الأوّل على الثاني مع أنّ التكليف فيهما انحلالي. وكذا إذا ورد في دليل : أكرم العلماء ثمّ ورد في دليل آخر : أكرم العلماء العدول ، فيحمل الأوّل على الثاني ، والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز ، يعني أنّه يدل على أنّ الحكم ـ وهو وجوب الاكرام ـ لم يثبت للعالم على نحو الاطلاق ، وإنّما ثبت لحصة خاصة منه ـ وهو العالم العادل في المثال دون العالم مطلقاً ولو كان فاسقاً ـ ومن الواضح أنّه لا فرق في

٢٨٠