محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

إنّما هو بالكثرة وببلوغه حدّ الكر ، فاذن يصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً محضاً ، وحيث إنّه لا يمكن بمقتضى الارتكاز العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو ، فلا محالة يكون قرينةً على تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.

وثانيهما : ما دلّ على طهارة بول الطير وخرئه مطلقاً ولو كان غير مأكول اللحم كقوله عليه‌السلام في معتبرة أبي بصير « كل شيء يطيرفلا بأس ببوله وخرئه » (١) معارض بما دلّ على نجاسة بول غير المأكول مطلقاً ولو كان طيراً ، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول ، ففي مثل ذلك لا بدّ من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ، حيث إنّ العكس يؤدي إلى إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع دليل الطهارة ، نظراً إلى أنّ الحكم بتقيده حينئذ [ يكون ] بما إذا كان الطير محلل الأكل ، ومن الواضح أنّ مرد ذلك إلى إلغاء عنوان الطير رأساً وجعل الموضوع للطهارة عنوان آخر ـ وهو عنوان ما يؤكل لحمه ـ وهو قد يكون طيراً وقد يكون غيره.

وهذا بخلاف ما لو قيّد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيراً ، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته للنجاسة ، ومن الطبيعي أنّه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوانٍ للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأساً يتعين الأوّل بنظر العرف ، وما نحن فيه كذلك فانّ تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع الطهارة رأساً ، وأمّا العكس فلا يستلزم

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

٤٦١

إلاّ تقييد إطلاق موضوعية عنوان غير المأكول للنجاسة ، وهذا أخف مؤونة من الأوّل بمقتضى فهم العرف وارتكازهم.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ المفهوم إن كان حاكماً على المنطوق فلا شبهة في تقديمه عليه وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، وكذا لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأساً دون العكس. وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض إن كانت ، وإلاّ فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.

وأمّا لو كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فلا شبهة في تقديم الخاص على العام ، حيث إنّه يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه ، ومن المعلوم أنّ ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وإن افترض أنّ ظهورها بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع ، كما إذا افترضنا ورود دليل يدل بالوضع على أنّ كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة إلاّ إذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، فانّه مع ذلك لا يقاوم مفهوم روايات الكر على الرغم من أنّ دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ حال التعارض بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلاً.

٤٦٢

تعقّب الاستثناء للجملات

إذا تعقب الاستثناء جملاً متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شيء منهما؟ فيه وجوه بل أقوال.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : والظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال ، ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل ، وإن كان المتراءى من صاحب المعالم قدس‌سره حيث مهّد مقدمةً لصحة رجوعه إليه أنّه محل الاشكال والتأمل ، وذلك ضرورة أنّ تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً ، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوماً ، وبذلك يظهر أنّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير. نعم ، غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لايكون معه ظاهراً فيه ، فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاصول ، إلاّ أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعياً ، لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة فانّه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع

٤٦٣

فتأمل (١).

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

الاولى : أنّه لا إشكال في صحة رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة على كل حال ، حيث إنّ رجوعه إلى ما عداها لا يمكن بلا قرينة. وكذا لا إشكال في صحة رجوعه إلى الجميع.

الثانية : أنّ صحة رجوعه إلى الجميع لا تتوقف على كون الموضوع له في الحروف عاماً ، بل يصح رجوعه إليه ولو كان الموضوع له فيها خاصاً ، والسر فيه : أنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في ناحية الأداة ، فان تعدده إنّما هو بحسب الخارج لا في مقام اللحاظ والاستعمال ، فانّه في هذا المقام واحد سواء أكان مطابقه في الخارج أيضاً واحداً أم كان متعدداً ، فتعدده فيه لا يوجب تعدد الاخراج في مقام اللحاظ وظرف الاستعمال ، فالاخراج واحد في هذا المقام وكذا المخرج منه وإن كان متعدداً في الخارج ، ومن الطبيعي أنّ تعدده فيه إنّما يوجب تعدد إضافة الاخراج لا نفسه كما هو واضح.

الثالثة : أنّه لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع ولا إلى خصوص الأخيرة وإن كان رجوعه إليها متيقناً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة من الجمل وإن كان غير معلوم إلاّ أنّه مع ذلك لا ظهور لها في العموم لاكتنافها بما يصلح للقرينية ، هذا.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ تعدد العمومات المتعقبة بالاستثناء لا يخلو من أن يكون بتعدد خصوص موضوعاتها أو بتعدد خصوص محمولاتها أو بتعدد كليهما معاً ، لوضوح أنّ القضية كما تتعدد بتعدد الموضوع والمحمول معاً ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

٤٦٤

كذلك تتعدد بتعدد الموضوع فقط مع وحدة المحمول ، أو المحمول فقط مع وحدة الموضوع ، والأوّل كقولنا : زيد قائم وعمرو قائم ، والثاني كقولنا : زيد عادل وزيد متكلم ، فالصور ثلاث : الاولى : أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب.

الثانية : أن يكون تعددها بتعدد المحمول كذلك. الثالثة : أن يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معاً.

أمّا الصورة الاولى : فإن لم يتكرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : أكرم العلماء والأشراف والسادة إلاّ الفسّاق منهم ، أو قيل : أكرم الفقهاء والاصوليين والمتكلمين إلاّمن كان فاسقاً منهم ، فالظاهر بل لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، حيث إنّ ثبوت الحكم الواحد لهم جميعاً قرينة عرفاً على أنّ الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل وإن كان متعدداً في الواقع ، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع. وإن شئت قلت : إنّ القضية في مثل ذلك وإن كانت متعددةً صورةً إلاّ أنّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بحكم واحد وهو وجوب إكرام كل فرد من الطوائف الثلاث إلاّ الفسّاق منهم ، فمردّ هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا : أكرم كل واحد من هذه الطوائف الثلاث إلاّمن كان منهم فاسقاً.

وأمّا إذا كرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : أكرم العلماء والأشراف ، وأكرم الشيوخ إلاّ الفسّاق منهم ، فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت ، لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أنّه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات ، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر ، وحيث إنّه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في تلك الجملات.

٤٦٥

ودعوى أنّها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جداً ، وذلك لأنّ كبرى احتفاف الكلام بذلك إنّما هي فيما إذا صحّ اعتماد المتكلم عليه وإن كان مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسق مثلاً إذا افترضنا أنّه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أنّه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو للأعم منه ومن الصغائر ، فانّه إذا ورد في كلام المولى مقترناً بعام أو مطلق كقوله : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة ، حيث إنّه يصح للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي ، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في العموم حتى يتمسك به.

فالنتيجة : أنّ مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة إنّما هي موارد إجماله واشتباه المراد منه للسامع ، وهذا بخلاف المقام حيث لا إجمال في الاستثناء في مفروض المسألة ، فانّه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل السابقة عليها ، فاذن لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.

وعلى الجملة : فلو أراد المولى تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان مخلاً ببيانه ، حيث إنّ الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي في خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقاً عليه ، ومعه لا موجب لرجوعه إلى الجميع ، فاذن كيف يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى.

نعم ، لو كان الاستثناء مجملاً وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحاً لرجوعه إلى كل منهما لكان المقام داخلاً فيها لا محالة.

٤٦٦

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول فحسب ، فإن كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا )(١) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الجميع ، نظير ما إذا قال المولى لعبده : بع كتبي وأعرها وآجرها إلاّما كان مكتوباً على ظهره أنّه مخصوص لي ، فانّه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور ، والوجه فيه واضح وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع ، حيث إنّه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه بحصة خاصة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع ، ويدل بمقتضى الارتكاز العرفي [ على ] أنّ هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم ، مثلاً لو قال المولى : أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلاّ الفسّاق منهم ، فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص العدول وأنّ هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفسّاق.

وعلى الجملة : فالقضية في المقام وإن كانت متعددةً بحسب الصورة إلاّ أنّها في حكم قضية واحدة ، فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدةً حقيقةً وأن تكون متعددةً صورةً ، فانّها في حكم الواحدة ، والتعدد إنّما هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الأحكام المتعددة. فالنتيجة : أنّه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض.

وأمّا إذا تكرر الموضوع فيها ثانياً كما في مثل قولنا : أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص

__________________

(١) النور ٢٤ : ٤ ـ ٥.

٤٦٧

الجملة المتكرر فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل إن كانت ، والسبب فيه : هو أنّ تكرار عقد الوضع قرينة عرفاً على قطع الكلام عما قبله ، وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.

فالنتيجة : أنّه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرّر الموضوع أصلاً وإنّما كرر الحكم فحسب ، وما إذا كرّر الموضوع أيضاً ، فعلى الأوّل يرجع الاستثناء إلى الموضوع المذكور في الجملة الاولى فيوجب تخصيصه بالاضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له ، وعلى الثانية يرجع إلى ما اعيد فيه الموضوع وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.

وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الاولى ، وكذا الثانية إذا كان ما اعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا ، لما عرفت من ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل ، ومعه لا محالة تكون أصالة العموم محكّمة. وأمّا ما قيل من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد الظهور لها في العموم ، فقد عرفت خطأه وأنّ المقام غير داخل في هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع والمحمول معاً ، فيظهر حالها مما تقدم يعني أنّ الاستثناء فيها أيضاً يرجع إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفاً بحرف.

٤٦٨

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

والظاهر أنّه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم ، والمخالف في المسألة إنّما هو العامة (١) وهم بين من أنكر تخصيصه به مطلقاً ، وبين من فصّل تارةً بما إذا خصص العام الكتابي بمخصص قطعي قبله ، وما إذا لم يخصص به كذلك ، فقال بالجواز على الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو تخيل أنّ التخصيص يوجب التجوز في العام فاذا صار العام مجازاً بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانياً بخبر الواحد ، نظراً إلى أنّ التخصيص الثاني لا يوجب شيئاً زائداً على ما فعله فيه التخصيص الأوّل ، وعليه فلا مانع منه.

وفيه : ما عرفت من أنّ التخصيص لا يوجب التجوز في العام.

وتارة اخرى : بين المخصص المتصل والمنفصل ، فقال بالجواز في الأوّل دون الثاني. ولعل وجهه هو أنّ الأوّل لا يوجب التجوز في العام دون الثاني.

وفيه : ما مرّ من أنّ التخصيص مطلقاً لا يوجب التجوز فيه. ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني. فالنتيجة : أنّ هذه الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.

والتحقيق هو ما ذهب إليه علماؤنا ( قدّس الله أسرارهم ) من جواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقاً ، والسبب في ذلك : هو أنّنا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٢ : ٥٢٥ ، المحصول ١ : ٤٣٢ ، المستصفى ٢ : ١١٤

٤٦٩

شرعاً بدليل قطعي ، فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به إلاّرفع اليد عنه بالقطع ، لفرض أنّا نقطع بحجيته. وبكلمة اخرى : أنّ التنافي إنّما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر ، ولا تنافي بينه وبين دلالته ، لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف ، حيث إنّها تكون قرينةً عندهم على التصرف فيه ، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها.

وعلى هذا فاذا أثبتنا اعتبار سنده شرعاً بدليل فلا محالة يكون مخصصاً لعمومه أو مقيداً لاطلاقه ، ولا يكون مردّ هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن ، ضرورة أنّه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سنداً ولا دلالة ، وإنّما التنافي كما عرفت بين دلالته على العموم أو الاطلاق وبين سند الخبر ، وأدلة اعتبار السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها ، وهو الشك في إرادة العموم ، حيث إنّه بعد اعتباره سنداً مبيّن لما هو المراد من الكتاب في نفس الأمر والواقع فيكون مقدّماً عليه وهذا واضح.

وإنّما الكلام في عدّة من الشبهات التي توهمت في المقام.

منها : أنّ الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني.

ويردّه : ما عرفت الآن من أنّ القطعي إنّما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة ، والمفروض أنّ الخبر لا ينافي سنده أصلاً لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة ، وأمّا دلالته على العموم أو الاطلاق فلا تكون قطعيةً ، ضرورة أنّنا نحتمل عدم إرادته تعالى العموم أو الاطلاق من عمومات الكتاب ومطلقاته ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه من رفع اليد عن القطعي بالظني ، فلو كانت دلالة الكتاب قطعيةً لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر ، بل لا بدّ من طرحه في مقابلها.

٤٧٠

وعلى الجملة : فحجية أصالة الظهور إنّما هي ببناء العقلاء ، ومن المعلوم أنّ بناءهم عليها إنّما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها وإلاّ فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها ، والمفروض أنّ خبر الواحد بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينةً على الخلاف جزماً ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار ، وقد جرت على ذلك السيرة القطعية العقلائية. ومن الطبيعي أنّ عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلاً ، بل حالها حالها.

فالنتيجة : أنّ رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن القطعي بالظني.

ومنها : أنّه لا دليل على اعتبار خبر الواحد إلاّ الاجماع ، وبما أنّه دليل لبي فلا بدّ من الأخذ بالمقدار المتيقن منه ، والمقدار المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو إطلاقه وإلاّ فلا يقين بتحقق الاجماع على اعتباره في هذا الحال ، ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه.

ويرد عليه : أنّ عمدة الدليل على اعتبار الخبر إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع بما هو إجماع ، وقد عرفت أنّ بناءهم على العمل بالعموم أو الاطلاق إنّما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه ، حيث إنّه يكون بنظرهم قرينةً على التصرف فيه.

ومنها : الأخبار (١) الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله ، وأنّ ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله أو ما شاكل ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩.

٤٧١

وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضاً ، وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.

والجواب عن ذلك : هو أنّ الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية كمخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما ، والنكتة فيه : أنّ هذه المخالفة لا تعدّ مخالفةً عند العرف ، حيث إنّهم يرون الخاص قرينةً على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق ، ومن الطبيعي أنّه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها ، وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم والخصوص من وجه ، حيث إنّ هذه المخالفة تعدّ مخالفةً عندهم حقيقةً وتوجب تحيّرهم في مقام العمل ، ويدل على ذلك أمران :

الأوّل : أنّا نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار عليهم‌السلام بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم عليهم‌السلام لعموماته ومطلقاته ، فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولاً لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم عليهم‌السلام.

الثاني : أنّ في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة شاهداً على أنّ الخبر المخالف حجة في نفسه وإلاّ فلا موضوع للترجيح ، لوضوح أنّ التعارض إنّما يقع بين الخبرين يكون كل منهما حجة في نفسه وإلاّ فلا يعقل التعارض. وعليه فبطبيعة الحال يكون الخبر المخالف كالموافق حجة في نفسه بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا شبهة في أنّ هذه المخالفة يعني المخالفة

٤٧٢

بالعموم المطلق لا تكون مشمولة لتلك الأخبار ، هذا.

مضافاً إلى أنّ أكثر الأخبار الواردة في أبواب العبادات والمعاملات لاتكون مخالفةً لعموم الكتاب ، حيث إنّها متكفلة للأحكام التي ليست بموجودة في عموم القرآن ليقال إنّها مخالفة له ، والوجه في ذلك : هو أنّ جل الآيات الواردة في أبواب العبادات إنّما هي في مقام التشريع فلا إطلاق لها فضلاً عن العموم.

وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الروايات الدالة على اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مخالفة لها بنحو من المخالفة. وأمّا الآيات الواردة في أبواب المعاملات وإن كان لكثير منها إطلاق إلاّ أنّه لا مانع من تقييده بخبر الواحد وإن لم نقل بجواز التخصيص به ، والنكتة فيه : أنّ ثبوت الاطلاق يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الطبيعي أنّها لا تجري مع قيام خبر الواحد على الخلاف ، وهذا بخلاف عموم العام ، فانّه لا يتوقف على شيء ما عدا الوضع.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّا لو قلنا بشمول الأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالأخبار المخالفة للكتاب لمثل هذه المخالفة ـ يعني المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ـ لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، لما عرفت من أنّنا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم إلغاء الخبر بالمرّة ، بل له موارد كثيرة لا بدّ من العمل به في تلك الموارد من دون كون العمل به فيها مخالفاً للكتاب بوجه.

ومنها : لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضاً ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٤٧٣

حيث إنّه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الأزمان فلا فرق بينهما إلاّ في أنّ التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الأفراد العرضية ، وذاك تخصيص بحسب الأفراد الطولية. ومن الطبيعي أنّ مجرد هذا لايوجب الحكم بجواز الأوّل وامتناع الثاني ، فلو جاز الأوّل جاز الثاني أيضاً مع أنّه ممتنع جزماً ، فيكون هذا شاهداً على امتناع الأوّل كالثاني.

وفيه : أنّ الاجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وهذا الاجماع ليس إجماعاً تعبدياً ، بل هو من صغريات الكبرى المسلّمة وهي أنّ الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنّه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده. والنسخ من هذا القبيل فانّه لو كان جائزاً بخبر الواحد لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للانكار ، فمن عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفاً قطعياً عن عدم وقوعه وأ نّه لا يجوز نسخ الكتاب به ، فلو دلّ خبر الواحد على نسخه لا بدّ من طرحه وحمله إمّا على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحال بالاضافة إلى إثبات قرآنية القرآن ، حيث إنّها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة ولذا لا يثبت باخبار عمر الآية : « الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما » لأنّ إخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به ، وإنّما يثبت بالخبر المتواتر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه فلا بدّ من حمله على أحد الوجوه الآنفة الذكر.

وعلى الجملة : فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد يكشف كشفاً جزمياً عن أنّ الأمر كذلك في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار عليهم‌السلام والنكتة فيه هي التحفظ على صيانة القرآن.

٤٧٤

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه لا مانع من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام.

٤٧٥

التخصيص والنسخ

إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور :

الاولى : أن يكون الخاص متصلاً بالعام ، ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ حيث إنّه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة ، والمفروض أنّ الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعاً له ، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آنٍ واحد ودليل فارد.

الثانية : أن يكون الخاص متأخراً عن العام ولكنّه كان قبل حضور وقت العمل به ، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاص ناسخاً له؟ فذكر بعض الأعلام أنّه لا يمكن أن يكون ناسخاً ، والنكتة فيه : أنّه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه ، ضرورة أنّه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغواً محضاً ، حيث إنّ الغرض من جعله إنّما هو صيرورته داعياً للمكلف نحو الفعل فاذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي لغواً فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.

نعم ، يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية ، حيث إنّ الغرض من جعلها ليس بلوغها مرتبة الفعلية ، ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم قدرة المكلف على الامتثال ، نظراً إلى أنّ الغرض منها مجرد الامتحان وهو يحصل بمجرد إنشاء الأمر ، فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه ، وهذا بخلاف

٤٧٦

الأوامر الحقيقية حيث إنّه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء شرطها وعدم تحققه في الخارج ، ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية والخارجية ، فكما أنّ جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح ، كذلك جعله مع علمه بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.

وعلى الجملة : فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والاتيان بالمأمور به مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها وامتثالها في الخارج ، لا محالة يكون لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك ، هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بما إليك نصه : ولكنّ التحقيق أنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية ، وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصحّ ما ذكروه ، وأمّا إذاكان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها في الخارج ـ كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة ـ فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل ، لأنّه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلاً ، إذ المفروض أنّه جعل على موضوع مقدّر الوجود.

نعم ، إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية ، كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية قبل وقت العمل به ، فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلاً حكماً مولوياً مجعولاً بداعي البعث أو الزجر.

٤٧٧

وبالجملة : إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده ، فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة ، وبالقضايا الخارجية ، والقضايا الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها ، وأمّا القضايا الخارجية أو الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحاكم الملتفت ، والوجه في ذلك ظاهر (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في نقطة : وهي أنّ الحكم المجعول إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به ، وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك ، وقد تعرّض قدس‌سره هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فلاحظ.

ويرد عليه : أنّه لا يتم باطلاقه والسبب فيه : ما عرفت من أنّه لا يكفي في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها فيه ، ضرورة أنّ المولى على الرغم من هذا لو جعلها بداعي البعث حقيقةً لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن صدوره منه مع التفاته إلى ذلك ، وقد مرّ آنفاً أنّه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية غير الموقتة ، والقضايا الحقيقية الموقتة ، والقضايا الخارجية ، فكما أنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في القسمين الأخيرين ، فكذلك مستحيل في القسم الأوّل من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى هذا التفصيل ، مع أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٤٧٨

قد صرح في عدة موارد (١) أنّ امتناع فعلية الحكم يستلزم امتناع جعله. هذا كلّه في الأوامر.

وأمّا النواهي فاذا علم المولى أنّه لا يترتب أيّ أثر على جعل النهي خارجاً ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته ، فلا محالة يكون جعله لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك ، وأمّا إذا علم بأنّ جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل القصاص والديات والحدود ، حيث إنّ تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف وزجره عن إيجاد موضوعها في الخارج فلا مانع منه ، بل يكون تمام الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي والقضايا الحقيقية والخارجية. نعم ، إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة سبباً لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.

الثالثة : أن يكون الخاص المتأخر وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصاً له أو ناسخاً؟ فيه وجهان.

فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، وعليه فيتعين كونه ناسخاً لا مخصصاً ، ولكنّهم وقعوا في الاشكال بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّ مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار

__________________

(١) منها ما في أجود التقريرات ٣ : ٥١٨.

٤٧٩

( عليهم‌السلام ) قد وردت بعد حضور وقت العمل بها ، ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها ، والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جداً بل نقطع بخلافه ، بداهة أنّ لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة ، وهذا في نفسه مما يقطع ببطلانه ، لا من ناحية ما قيل من أنّ النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لانقطاع الوحي ، وذلك لأنّ الوحي وإن انقطع بعد زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنّه لا مانع من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوكل بيانه إلى الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام كبيان سائر الأحكام. بل من ناحية أنّ نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل الله تعالى وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام ببيانها ، ولأجل ذلك يقطع بخلافه.

ومن هنا قد قاموا بعدة محاولات للتفصي عن هذا الاشكال ، أحسنها ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) من أنّ هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها ضرباً للقاعدة ، يعني أنّها متكفلة للأحكام الظاهرية فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص ، فاذا ورد المخصص عليها كان ناسخاً بالاضافة إلى الأحكام الظاهرية ومخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية والأحكام الواقعية.

وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ كون العموم مراداً بالارادة الاستعمالية لا يلازم كونه مراداً بالارادة الجدية ، كما أنّ كونه مراداً ظاهراً

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٧ ، ٤٥١.

(٢) مطارح الأنظار : ٢١٢.

٤٨٠