محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

وتمام الكلام في محلّه.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النسبة غير ثابتة.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية ، ولكن لم يعلم وجه فتواهم بذلك هل هو من ناحية التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو من ناحية قاعدة المقتضي والمانع ، نظراً إلى أنّ المقتضي للضمان موجود وهو اليد ، والمانع مشكوك فيه وهو كونها يد أمانة فيدفع بالأصل ، أو استصحاب العدم الأزلي نظراً إلى أنّ موضوع الضمان هو الاستيلاء على مال الغير المتصف بكونه مقارناً لعدم رضاه ، فاذا كان الاستيلاء محرزاً بالوجدان جرى استصحاب عدم رضا المالك فيثبت الضمان ، أو وجه آخر غير هذه الوجوه. فالنتيجة أنّ كون مستند فتواهم به أحد هذه الامور الثلاثة غير معلوم ، بل هي بأنفسها غير تامة. أمّا الأوّل فسيجيء الكلام فيه. وأمّا الثاني فان اريد بالمقتضي الدليل فقد عرفت أنّه قاصر عن شمول المورد ، وإن أريد به الملاك المقتضي له فلم يمكن إحراز أصل وجوده فيه بعد عدم شمول الدليل له ، وإن أريد به اليد الخارجية فقد عرفت أنّ اليد مطلقاً لاتقتضي الضمان والمقتضي له إنّما هو اليد الخاصة ، وهي التي لاتكون يد أمين.

ثمّ قال قدس‌سره إنّ الصحيح في وجه ذلك أن يقال : إنّه يمكن التمسك بالأصل لاحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إليه ، وملخص ما أفاده قدس‌سره : هو أنّ موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاه بذلك ، والمفروض في المقام أنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٣.

٣٤١

رضاه بذلك محرز بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو الضمان.

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره في غاية الصحة والمتانة ، سواء أكانت الدعوى بين المالك وذي اليد في الرضا وعدمه ، يعني أنّ المالك يدّعي أنّه غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي رضاءه به كما عرفت ، أو كانت بينهما في رضا الله تعالى به وعدمه ، يعني أنّ المالك يدّعي أنّه تعالى غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي أنّه راضٍ به ، كما إذا افترضنا أنّ المالك يدعي أنّك غصبت ما بيدك من مالي ، وهو يدعي أنِّي وجدت هذا المال وأ نّه كان عندي أمانة برضى الله سبحانه وتعالى فلا ضمان عليه إذا تلف ، ففي هذه الصورة أيضاً لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، حيث إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضاه تعالى به محرز بالأصل ، فيتم الموضوع ويترتب عليه أثره وهو الضمان.

وإن شئت قلت : إنّ ذي اليد قد اعترف بأنّ المال الذي تحت يده هو مال المدعي ، ولكنّه ادعى أنّه غير ضامن له بدعوى أنّ يده عليه يد امانة ، حيث إنّها كانت باذن من الله تعالى ، ولكنّ المالك ادعى أنّه تعالى لم يأذن به وأنّ يده عليه ليست يد أمانة ، ففي مثل ذلك يمكن إحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل ، وهو أصالة عدم إذنه تعالى به.

نعم ، فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدعي ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ، ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم ضمانه ، مثاله : ما إذا اختلف المالك وذو اليد في عقد فادعى المالك أنّه بيع ، وادعى ذو اليد أنّه هبة ، فالقول قول مدعي الهبة ، وعلى مدعي البيع الاثبات ، والوجه فيه : هو أنّه يدعي اشتغال ذمة المنقول إليه بالثمن وهو ينكر ذلك ويدعي عدم

٣٤٢

اشتغال الذمة بشيء ، فحينئذ إن أقام البيّنة على ذلك فهو وإلاّ فله إحلاف المنكر أي المنقول إليه ، حيث إنّ قوله مطابق لأصالة عدم الضمان ، يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن.

هذا فيما إذا كانت العين تالفة أو كان المنقول إليه ذا رحم ، وإلاّ فله حق استرجاع المال من دون مرافعة ، لأنّ العقد إن كان بيعاً في الواقع فبما أنّ المشتري لم يردّ ثمنه فله خيار الفسخ ، وإن كان هبةً كذلك يعني في الواقع فبما أنّها جائزة على الفرض فله فسخها واسترداد المال. نعم ، إذا افترضنا الأمر بالعكس بأن يدّعي المالك الهبة ويدّعي ذو اليد البيع ، فالقول قول مدعي البيع ، وعلى مدعي الهبة الاثبات ، وذلك لأنّه يدّعي في الحقيقة زوال ملكية المنقول إليه عن هذا المال برجوعه ، فان أقام البيّنة على ذلك فهو وإلاّ فالقول قوله مع يمينه. ولكن مثل هذا الفرع خارج عن مورد كلامه قدس‌سره فانّ مفروض كلامه هو ما إذا كان الشك في رضا المالك وعدمه ، كما في الفرعين الأوّلين ، وأمّا في هذا الفرع فالمفروض أنّ رضا المالك بالتصرف محرز والشك في الضمان إنّما هو من ناحية اخرى.

فالنتيجة : أنّ النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم تكن فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز ، والسبب فيه : أنّ غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو ما أشرنا إليه من أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره ، وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه ، مثلاً لو أمر المولى بقوله : أكرم كل عالم ثمّ نهى عن إكرام العالم الفاسق ، فالدليل الأوّل وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى. أمّا الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد. وأمّا الكبرى وهي وجوب إكرام كل عالم قد وصلت إلينا على الفرض ، وقد تقدم

٣٤٣

أنّها لا تتكفل لبيان حال الأفراد في الخارج ، وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع المفروض الوجود فيه ، فاذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض فلا حالة منتظرة للعمل به ، وأمّا الدليل الثاني وهو الخاص ففي كل مورد أحرزنا صغراه ـ وهو العالم الفاسق ـ نحكم بحرمة إكرامه ونقيّد عموم العام بغيره ، وفيما لم نحرزها لا نحكم بحرمة إكرامه ، لما عرفت من أنّ العمل بالدليل متوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبدونه فلا موضوع للعمل به ، وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أنّ زيداً العالم مثلاً فاسق أو ليس بفاسق ، ولكن لا مانع من العمل بالعام فيه لاحراز الصغرى والكبرى معاً بالاضافة إليه.

وعلى الجملة : فلا يمكن التمسك بأيّ دليل ما لم يحرز صغراه ، ولا يكون حجةً بدون ذلك ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة إنّا إذا شككنا في مائع أنّه خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دلّ على حرمة شرب الخمر ، ضرورة أنّه لا يكون متكفلاً لبيان صغراه ، وإنّما هو متكفل لثبوت الحكم لمائع على تقدير أنّه خمر ، كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلاً ، لا وجوداً ولا عدماً ، وإنّما هي ناظرة إلى ثبوت الأحكام لموضوعاتها المقدّر وجودها في الخارج ، وأمّا أنّها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبداً ، فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر ، نظراً إلى أنّ المخصص هناك لا يكون حجة إلاّفي الأقل دون الزائد عليه ، ومن المعلوم أنّه لا مانع من الرجوع إلى عموم العام في الزائد ، لعدم قصور فيه عن الشمول له.

وكذا الحال في المقام حيث إنّ المخصص كقولنا : لا تكرم فسّاقهم لا يكون حجةً إلاّفيما إذا احرز صغراه فيه ، فاذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا

٣٤٤

مانع من التمسك به ، وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون حجةً ، وعليه فلا مانع من كون العام حجةً فيه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حريّ بنا أن نقدّم نقطةً : وهي أنّ الحجة قد فسّرت بتفسيرين : أحدهما أن يراد بها ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما أن يراد بها الكاشفية والطريقية ، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدي فيحتج على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الحجة بالتفسير الأوّل تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وإلاّ فلا أثر لها أصلاً ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أنّه يجوز ارتكاب المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه ، فانّ ما دلّ على حرمة شرب الخمر أو نجاسة البول لا يكون حجةً في المشتبه ، لعدم إحراز صغراه. وأمّا الحجة بالتفسير الثاني فلا تتوقف على إحراز الصغرى ، ضرورة أنّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه ، سواء أكان لها موضوع في الخارج أم لم يكن. وإن شئت قلت : انّ الحجة بهذا التفسير تتوقف على إحراز الكبرى فحسب.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في مقام الفتيا ، دونها بالتفسير الأوّل ، ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه أجاب بالكتاب أو السنّة أو ما شاكلهما ، ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج على المستطيع سواء أكان المستطيع موجوداً في الخارج أم لم يكن ، فاحراز الكبرى فحسب كافٍ من دون لزوم إحراز الصغرى.

ومن ناحية رابعة : أنّ القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

٣٤٥

توهم أنّ المراد من الحجة في كل من طرفي العام والخاص هو الحجة بالتفسير الأوّل دون التفسير الثاني ، وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً ، وبما أنّ الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما على إحراز الصغرى فحسب ، فان احرز أنّه عالم فاسق فهو من صغريات الخاص حيث قد قيد موضوع العام بغيره ، وإن شك في فسقه فلا يحرز أنّه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاص حجةً فيه ، وأمّا كونه من صغريات العام فالظاهر أنّه من صغرياته لفرض أنّ العالم بجميع أقسامه وأصنافه ـ أي سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه ـ من صغريات العام ، ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق ، وأمّا القسمان الآخران فهما باقيان تحته.

والحاصل : أنّ موضوع العام قد قيّد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص نظراً إلى أنّه حجة فيه دون غيره ، وأمّا مشكوك الفسق فهو باقٍ تحت العام فلا مانع من التمسك به بالاضافة إليه.

وبعد ذلك نقول : إنّ المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير الثاني يعني الطريقية والكاشفية ، والوجه فيه واضح وهو أنّ معنى حجية العام في عمومه وحجية الخاص في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع ، حيث إنّ حجية كل منهما من باب حجية الظهور ، وقد حقق في محلّه أنّ حجيته من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع. ثمّ إنّ الحجة بهذا المعنى تلازم الحجة بالمعنى الأوّل أيضاً ، يعني أنّ المولى كما يحتج على عبده بجعل ظهور العام مثلاً حجةً عليه وكاشفاً عن مراده واقعاً وجداً ، كذلك يحتج بجعل ظهور الخاص حجةً عليه وكاشفاً عن مراده في الواقع.

وعليه فاذا ورد عام كقولنا : أكرم كل عالم فهو كاشف عن أنّ مراد المولى

٣٤٦

إكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفسّاق ونحوهما ، ثمّ إذا ورد خاص كقولنا : لا تكرم فسّاقهم فهو يكشف عن أنّ مراده الجدي هو الخاص دون العام بعمومه ، ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه إمّا مطلقاً أو مقيداً ، ولا ثالث لهما ، وحيث إنّه لا يمكن أن يكون هو المطلق ، لفرض وجود المقيد والمخصص في البين ، فلا محالة يكون هو المقيد ، يعني أنّ موضوع العام يكون مقيداً بقيد عدمي ، ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً ، لا مطلق العالم ولو كان فاسقاً ، وعلى ضوء هذا البيان فاذا شك في عالم أنّه فاسق أو ليس بفاسق فكما أنّ صدق عنوان المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام ، فالصغرى في كليهما غير محرزة. فاذن لا محالة يكون التمسك بالعام بالاضافة إليه من التمسك به في الشبهات المصداقية ، كما أنّ التمسك بالخاص بالاضافة إليه كذلك.

وإن شئت فقل : إنّ التمسك بالعام إنّما هو من ناحية أنّه حجة وكاشف عن المراد الجدي ، لا من ناحية أنّه مستعمل في العموم ، إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً ، والمفروض أنّ المراد الجدي هنا غير المراد الاستعمالي ، حيث إنّ المراد الجدي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي ، وعليه فاذا شك في عالم أنّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالاضافة إلى الخاص ، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالاضافة إلى كل من العام بما هو حجة والخاص نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالاضافة إلى هذا الفرد ، فكذلك لايمكن التمسك بالعام بالاضافة إليه ، ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بالمسألة المتقدمة ـ وهي ما إذا كان

٣٤٧

المخصص مجملاً ودار أمره بين الأقل والأكثر ـ [ خاطئ جدّاً ] ووجه الظهور هو أنّ تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم ، وأمّا بالاضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم.

وعلى الجملة : فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية ، بل من ناحية الشبهة المفهومية فيكون الشك شكاً في التخصيص الزائد بعد العلم بأنّ المشكوك فيه ليس من مصاديق المخصص ، دون المقام فانّ الشك فيه ليس شكاً في التخصيص الزائد ، وإنّما هو شك في أنّه من مصاديق العام بما هو حجة أو لا ، وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لاحراز أنّه من مصاديقه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعام فيها ، بل هو من التمسك بالعام في الشبهات الحكمية ، حيث إنّ الشك إنّما هو في التخصيص الزائد بالاضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاص ، نظراً إلى أنّ الخاص لا يكون حجةً بالاضافة إليه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج :

الاولى : أنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير ممكن.

الثانية : أنّ ما ذكر في وجه جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين المزبورين للحجة.

الثالثة : أنّه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك بالعام في الموارد المشكوك كونها من مصاديق الخاص من التمسك به في الشبهات المصداقية.

٣٤٨

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) قد فصّل في المقام بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية دون الثاني ، وتبعه في ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وقال في وجهه ما إليك نصه :

وأمّا إذا كان ـ المخصص ـ لبياً ، فان كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلاّفي الخصوص ، وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه ، والسر في ذلك : أنّ الكلام الملقى من السيد حجةً ليس إلاّما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بدّ من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى أكرم جيراني وقطع بأ نّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم ، كان أصالة العموم باقيةً على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته ، لعدم حجة اخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً ، فانّ قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأ نّه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقةً فيما كان الخاص متصلاً ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته إلاّفيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٤.

٣٤٩

وبالجملة : كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعلّه لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما بالقاء حجتين هناك تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام كأ نّه لم يعمّه حكماً من رأس ، وكأ نّه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فانّ الحجة الملقاة ليست إلاّواحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في أكرم جيراني مثلاً لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلاّ فيما قطع بخروجه عن تحته ، فانّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه فلا بدّ من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه. بل يمكن أن يقال إنّ قضية عمومه للمشكوك أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه فيقال في مثل لعن الله بني اميّة قاطبة أنّ فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً فينتج أنّه ليس بمؤمن ، فتأمل جيداً (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة خطوط :

١ ـ أنّ المخصص اللبي قد يكون كالمخصص اللفظي المتصل ، يعني يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم.

٢ ـ أنّه قد يكون كالمنفصل اللفظي ، يعني لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، ولكنّه يفترق عنه في نقطة وهي أنّ المخصص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسك بالعام في الفرد المشتبه ، وأمّا إذا كان لبياً فهو غير مانع عنه ، والنكتة في ذلك : هو أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصص من باب تحكيم الخاص على العام ، وعليه فاذا شك في فرد أنّه من أفراد الخاص أو العام لم يمكن التمسك بالعام لاحراز أنّه من أفراده كما عرفت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٣٥٠

بشكل موسّع ، وهذا بخلاف الثاني ، فانّه لا يوجب تقيد موضوع العام إلاّبما قطع المكلف بخروجه عن تحته ، فانّ ظهور العام في العموم حجة ، والمفروض عدم قيام حجة اخرى على خلافه وإنّما هو قطع المكلف بخروج بعض أفراده عن تحته للقطع بعدم كونه واجداً لملاك حكمه ، وهذا القطع حجة فيكون عذراً له في مقام الاحتجاج ، وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسك بعمومه فيها ، حيث إنّ المانع عنه على الفرض إنّما هو قطع المكلف به ، ومع فرض عدمه فلا مانع منه أصلاً.

٣ ـ أنّ التمسك بعموم العام للفرد المشكوك فيه يكون دليلاً على أنّه ليس فرداً لما علم بخروجه من العنوان عن حكمه وأنّ هذا الفرد من أفراد العام ، هذا.

وقد أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك بيانه : وهذا الكلام ـ جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً غير لفظي ـ لا يسعنا تصديقه على إطلاقه ، فانّ المخصص إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً بأن كان صارفاً لظهور الكلام وموجباً لعدم انعقاد الظهور إلاّفي الخاص من أوّل الأمر ، فحكمه حكم القرينة المتصلة اللفظية فكما لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية معها كذلك لا يجوز التمسك بالعموم معه ، وأمّا إذا كان حكماً عقلياً أو إجماعاً بحيث لم يكن صالحاً لصرف ظهور العام من أوّل الأمر ، فحكمه حكم المخصص المنفصل اللفظي ، إذ كما أنّ المخصص اللفظي بعد تقدمه على عموم العام يكشف عن تقيد المراد الواقعي وعدم كون موضوع الحكم الواقعي مطلقاً فلا يمكن التمسك به عند عدم إحراز تمام موضوعه لأجل الشك في وجود القيد ، كذلك المخصص اللبي يكشف عن التقيد المزبور فلا يمكن التمسك بالعموم عند عدم إحراز تمام موضوعه ، فانّ الاعتبار في عدم اعتبار

٣٥١

جواز التمسك بالعموم إنّما هو بالمنكشف ، أعني به تقيد موضوع الحكم لباً ، لا بخصوصية الكاشف من كونه لفظياً أو عقلياً (١).

وبعد ذلك نقول : أمّا الخط الأوّل فهو في غاية الصحة والمتانة.

وأمّا الخط الثاني : فيرد عليه ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره لكن فيما إذا كان تطبيق الكبرى على الصغرى وإحرازها موكولاً بنظر المكلف ، سواء أكانت القضية حقيقيةً أم كانت خارجيةً ، لا مطلقاً حتى فيما إذا لم يكن موكولاً بنظره ، فلنا دعويان : الاولى عدم تمامية هذا الخط فيما إذا كان أمر التطبيق منوطاً بنظر المكلف. الثانية تماميته فيما إذا لم يكن كذلك.

أمّا الدعوى الاولى (٢) : فإن كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق موضوع الحكم فيها على أفراده في الواقع موكولاً بنظر المكلف وإحرازه ، فبطبيعة الحال يكون إحراز عدم وجود ملاك الحكم في فردٍ مّا كاشفاً عن أنّ فيه خصوصية قد قيد موضوع العام بعدمها ، وتلك الخصوصية قد تكون واضحةً بحسب المفهوم عرفاً والشك إنّما هو في وجودها في فردٍ مّا من أفراد العام ، وقد تكون مجملةً بحسب المفهوم كذلك ، يعني يدور أمرها بين أمرين أو الأكثر ، وهذا تارةً من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، واخرى من المتباينين ، أو العموم من وجه ، فالأقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : فلا يجوز فيه التمسك بالعام لاثبات الحكم له ، لفرض أنّ الشك فيه في وجود موضوعه وتحققه في الخارج ومعه لا محالة يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق فيه بين أن يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٢.

(٢) [ تأتي الدعوى الثانية في ص ٣٥٤ ].

٣٥٢

المخصص لفظياً أو لبياً.

وأمّا القسم الثاني : فلا مانع من التمسك به بالاضافة إلى المقدار الزائد عن المتيقن ، حيث إنّ مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد ، والمرجع فيه لا محالة هو عموم العام.

وأمّا القسم الثالث : فلا يمكن التمسك به لاجماله ، نظراً إلى أنّنا نعلم إجمالاً بتقييد موضوع العام بقيد مردد بين أمرين متباينين أو امور كذلك ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم الاجمالي مانع من التمسك به في المقام ، حيث إنّ شمول العام لكليهما معاً لا يمكن ، وشموله لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجّح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال وهو ما إذا ورد دليل يدل على وجوب إكرام كل عالم الشامل للعادل والفاسق وللنحوي وغيره ، ثمّ علم من الخارج أنّ ملاك وجوب الاكرام غير موجود في زيد العالم مثلاً ، وهذا تارةً من ناحية العلم بكون اتصافه بالفسق مانعاً عن تحقق ملاك وجوب الاكرام فيه ، واخرى من ناحية العلم بكون المانع من تحقق الملاك فيه واحدة من صفتي الفسق والنحوية الموجودتين فيه ، فعلى الأوّل لا محالة يستلزم ذلك العلم بتقييد موضوع وجوب الاكرام بعدم كونه فاسقاً ، وعليه فبطبيعة الحال لا يجوز التمسك بالعموم لاثبات وجوب الاكرام للعالم الذي شك في فسقه ، وعلى الثاني يستلزم العلم بتقييد الموضوع بعدم اتصافه بأحد الوصفين على نحو الاجمال ، ولازم ذلك إجمال العام وعدم جواز التمسك به لاثبات وجوب الاكرام للعالم الفاسق أو للنحوي.

نعم ، إذا علم أنّ المانع من تحقق الملاك هو صفة الفسق ولكنّها بحسب المفهوم مجمل ويدور أمره بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه وفاعل الصغيرة ، أو احتمل أنّ المانع من تحقق الملاك هو اجتماع الوصفين معاً لا كل

٣٥٣

واحد منهما ، أو مع إضافة وصف آخر إليهما ، اقتصر في جميع هذه الفروض في تخصيص العام على القدر المتيقن ويتمسك في غيره بأصالة العموم ، كما كان هو الحال بعينه فيما دار أمر المخصص اللفظي بين الأقل والأكثر.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هو أنّه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي في شيء من الأحكام المزبورة فيما إذا كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق الموضوع على أفراده في الخارج بنظر نفس المكلف.

وأمّا إذا كانت القضية من قبيل القضايا الخارجية ، فإن كان المخصص لفظياً لم يجز التمسك بالعام في موارد الشبهات المصداقية ، حيث إنّ المخصص اللفظي يكون قرينةً على أنّ المولى أوكل إحراز موضوع حكمه في الخارج إلى نفس المكلف ، وبما أنّ موضوعه صار مقيداً بقيد بمقتضى التخصيص فبطبيعة الحال إذا شك في تحقق قيده في الخارج لم يمكن التمسك بالعموم ، لفرض عدم كونه ناظراً إلى وجوده فيه أو عدم وجوده كما سبق. وأمّا إذا كان المخصص لبياً فإن علم من الخارج أنّ المولى أوكل إحراز موضوع العام إلى نفس المكلف فحاله حال المخصص اللفظي ، كما إذا ورد في دليل : أعط لكل طالب علم في النجف الأشرف كذا وكذا ديناراً ، وعلم من الخارج أنّ مراد المولى هو المعيل دون المجرد ، ولازم ذلك بطبيعة الحال هو العلم بتقيد موضوع العام بعدم كونه مجرداً ، فعندئذ إذا شك في طالب علم أنّه معيل أو مجرد لم يمكن التمسك بعمومه ، لعدم إحراز أنّه من مصاديق العام.

وإن لم يعلم من الخارج ذلك صحّ التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية ، والسبب فيه : أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أنّه بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع الأفراد ولم يكل ذلك إلى المكلف ، ومن

٣٥٤

المعلوم أنّ هذا الظهور حجة على المكلف في الموارد المشكوك فيها ، فاذا أمر المولى خادمه باكرام جميع جيرانه ، فانّ ظهور كلامه في العموم كاشف عن أنّه لاحظ جميع أفراد موضوع حكمه وأحرز وجود الملاك في الجميع ، ومن الطبيعي أنّ هذا الظهور حجة عليه ولا يجوز له التعدي عن مقتضاه إلاّ إذا علم خلافه ، كما إذا علم بأنّ زيداً مثلاً الذي يسكن في جواره عدوّه وأ نّه لا ملاك لوجوب الاكرام فيه جزماً ، وسكوت المولى عن بيانه لعلّه لأجل مصلحة فيه أو مفسدة في البيان أو غفل عنه أو كان جاهلاً بعدم وجود الملاك فيه ، وكيف ما كان فالمكلف متى ما علم بعدم وجود الملاك فيه فهو معذور في ترك إكرامه ، لأنّ قطعه هذا عذر له ، وهذا بخلاف ما إذا شك في فرد أنّه عدوّه أو لا فلا عذر له في ترك إكرامه ، حيث إنّه لا أثر لهذا الشك في مقابل الظهور ، نظراً إلى أنّه حجة فلا يجوز له رفع اليد عنه من دون قيام دليل وحجة أقوى بخلافه.

وأمّا الخط الثالث : فهو صحيح فيما إذا لم يكن إحراز الموضوع موكولاً إلى نظر المكلف كما هو الحال في مثل قوله عليه‌السلام : « لعن الله بني اميّة قاطبة » (١) فانّ هذه القضية بما أنّها قضية خارجية صادرة من الإمام عليه‌السلام من دون قرينة تدل على إيكال إحراز الموضوع فيها في الخارج إلى نظر المكلف ، فبطبيعة الحال تدل على أنّ المتكلم لاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز أنّه لا مؤمن بينهم ، وعليه فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعن الفرد المشكوك في إيمانه. أو فقل : إنّا إذا علمنا من الخارج أنّ فيهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه فلا يجوز لعنه جزماً ، وأمّا إذا شك في فرد أنّه مؤمن أو ليس بمؤمن فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعنه ، ويستكشف منه بدليل الانّ أنّه

__________________

(١) كامل الزيارات : ١٧٦.

٣٥٥

ليس بمؤمن.

فالنتيجة : أنّ القضية إن كانت خارجيةً فإن كان المخصص لفظياً أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ إحراز الموضوع في الخارج موكول إلى نظر المكلف ، لم يجز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية. وأمّا إذا كان المخصص لبياً ولم تقم قرينة على ذلك فالقضية في نفسها ظاهرة في أنّ أمر التطبيق بيد المولى ، وأ نّه لاحظ جميع الأفراد الخارجية وجعل الحكم عليها ، مثلاً لو قال المولى لعبده : بع جميع ما عندي من الكتب ، فانّه يدل بمقتضى الفهم العرفي على أنّ المولى قد أحرز وجود ملاك البيع في كل واحد واحد من كتبه ، ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة إلاّفيما حصل له القطع بالخلاف ، فحينئذ يرفع اليد عن هذا الظهور ويعمل على طبق قطعه لأنّ حجيته ذاتية وهو معذور في العمل به وإن كان مخالفاً للواقع ، وأمّا في موارد الشك في وجود الملاك فالظهور حجة فيها ، ولو خالف ولم يعمل به استحق المؤاخذة واللوم ، إذ لا أثر لشكه بعد ما كان أمر التطبيق وإحراز الملاك بيد المولى.

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقد التفصيل الذي اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وحاصل ما اختاره أنّ المخصص اللبي بحسب مقام الاثبات على أنحاء ثلاثة :

أحدها : ما يوجب تقييد موضوع حكم العام وتضييقه نظير تقييد الرجل في قوله عليه‌السلام : « فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا » إلخ بكونه عادلاً ، لقيام الاجماع على ذلك ، فحال هذا القسم حال المخصص اللفظي في عدم جواز التمسك بالعموم معه في الأفراد المشكوك فيها ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٧.

٣٥٦

ولا فرق في ذلك بين كون المخصص اللبي من قبيل القرينة المتصلة كما إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً ، أو من قبيل القرينة المنفصلة كما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً ، فانّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

وثانيها : ما يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وعلته من دون أن يوجب ذلك تقييد موضوع الحكم به ، حيث إنّه لا يصلح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فإن كان المخصص اللبي من هذا القبيل فلا إشكال في جواز التمسك بالعموم عندئذ في الشبهات المصداقية ، وكشف هذا العموم بطريق الانّ عن وجود الملاك في تمام الأفراد ، فاذا شك في وجود الملاك في فردٍ كان عموم الحكم كاشفاً عن وجود الملاك فيه ورافعاً للشك من هذه الناحية ، كما أنّه إذا علم بعدم الملاك في فردٍ كان ذلك الفرد خارجاً عن العام من باب التخصيص ، فيكون سكوت المولى عن حكم ذلك الفرد إمّا لأجل مصلحة مقتضية له أو مفسدة في بيانه كما في المولى الحقيقي ، أو لجهله بعدم الملاك فيه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية.

فالنتيجة : أنّ المخصص اللبي على هذا سواء أكان حكماً ضرورياً أم نظرياً أم إجماعاً لا يوجب تقييد موضوع الحكم في طرف العام ، حيث إنّ ملاك الحكم كما عرفت لا يصلح أن يكون قيداً لموضوعه ، والسبب في ذلك : هو أنّ إحراز اشتمال الأفراد على الملاك إنّما هو وظيفة نفس المولى ، فبعموم الحكم يستكشف أنّه أحرز وجود الملاك في تمام الأفراد فيتمسك به في الموارد المشكوكة.

وثالثها : ما لا يكشف عن شيء من الأمرين المزبورين ، يعني لا يعلم أنّه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما ، فاذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في موارد

٣٥٧

الشك ، فقد فصّل قدس‌سره بين ما إذا كان المخصص اللبي حكماً عقلياً ضرورياً بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان ، وما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية ، حيث إنّ المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيسقط ظهوره في العموم لا محالة ، فانّ هذا المخصص اللبي إن كان كاشفاً عن الملاك لم يكن مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، وإن كان كاشفاً عن تقييد موضوع العام كان مانعاً عنه ، وبما أنّه مردد بين الأمرين فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد الظهور ، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك بالعموم حيث إنّ ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك به في الشبهات المصداقية ، والسبب في ذلك هو أنّ أمر المخصص بما أنّه يدور بين الأمرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به في الواقع ، بل هو مجرد الاحتمال ، ومن الطبيعي أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة ، ولا يمكن رفع اليد عنه بمجرد الاحتمال.

وجه الظهور : أي ظهور النقد ، هو ما عرفت من أنّه لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظياً أو لبياً. وأمّا في القضايا الخارجية فإن كان المخصص لفظياً ، أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ المولى أوكل أمر التطبيق وإحراز الموضوع إلى نفس المكلف ، فأيضاً لا يمكن التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق. نعم ، إذا كان المخصص لها لبياً ولم تقم قرينة على إيكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كانت القضية بنفسها ظاهرةً في أنّ المولى لاحظ بنفسه الأفراد الخارجية واشتمالها على الملاك ثمّ جعل الحكم عليها ، ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة ولا يمكن رفع اليد عنه إلاّفيما علم بعدم

٣٥٨

اشتمال فرد على الملاك ، فيكون سكوت المولى عن استثنائه لعله لأجل مصلحة في السكوت أو لأجل مفسدة في الاستثناء ، أو لأجل جهل المولى به ، أو غفلته عنه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية ، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ إحراز اشتمال المتعلق على الملاك وظيفة الحاكم فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ العلم بعدم اشتمال فرد على الملاك لا ينفك عن العلم بعدم كونه واجداً لخصوصية موجودة في بقية الأفراد وإن كانت تلك الخصوصية أمراً عدمياً ، ومن الطبيعي أنّ العلم بدخل هذه الخصوصية في ملاك الحكم ملازم للعلم بأخذها في موضوعه ، وعليه فلا يجوز التمسك بالعموم لا محالة فيما إذا شك في انطباق الموضوع بتمام قيوده على فردٍ مّا في الخارج إذا لم يكن أمر التطبيق بيد المولى ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ المخصص اللبي قد يدور أمره بين أن يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وأن يكون قيداً للموضوع لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، والسبب فيه : أنّه لا يوجد مورد يشك في كون ما أدركه العقل من قبيل قيود الموضوع أو من قبيل الملاك المقتضي لجعل الحكم على موضوعه ، حيث إنّ كل ما يمكن انقسام الموضوع بالنسبة إليه إلى قسمين أو أزيد يستحيل أن يكون من قبيل ملاكات الأحكام ، بل لا بدّ من أن يكون الموضوع بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً بوجوده أو بعدمه ، كما أنّ كل ما يكون مترتباً على فعل المكلف في الخارج من المصالح أو المفاسد يستحيل كونه قيداً لموضوع الحكم وإنّما هو متمحض في كونه ملاكاً له ومقتضياً لجعله على موضوعه.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، وما اخترناه من التفصيل هو الصحيح.

٣٥٩

تكملة

[ استصحاب العدم الأزلي ]

هل يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بعموم العام بالاضافة إليه؟ فيه قولان.

فذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى القول الأوّل ، وشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) إلى القول الثاني ، فهنا نظريتان. والصحيح هو النظرية الأولى دون الثانية.

ثمّ ليعلم أنّ محل الكلام في جريان هذا الأصل وعدم جريانه إنّما هو فيما إذا كان المخصص ذا عنوان وجودي وموجباً لتقييد موضوع العام بعدمه كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم ، أو قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم ، وأمّا إذا كان المخصص موجباً لتقييد موضوع العام بعنوان وجودي كقوله : أكرم العلماء العدول أو أكرم العلماء ثمّ قال : فليكونوا عدولاً ، فهو خارج عن محل الكلام ، فلو شك في فرد أنّه عادل أو ليس بعادل فلا أصل لنا لاحراز عدالته. نعم ، لو شك في بقائها فالاستصحاب وإن كان يقتضي ذلك إلاّ أنّه خارج عن مفروض الكلام ، حيث إنّ الكلام في وجود الأصل المحرز لعدالته مطلقاً وفي جميع الموارد ، ومثل هذا الأصل غير موجود.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٨.

٣٦٠