محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

والسبب في ذلك : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الملازمة المزبورة وإن لم تكن داخلةً تحت إحدى المقولات كالجواهر والأعراض ، إلاّ أنّها مع ذلك أمر واقعي أزلي ، أي ثابت من الأزل وليست لها حالة سابقة ، فان كانت موجودة فهي من الأزل وإن كانت غير موجودة فكذلك ، فلا معنى لأن يشك في بقائها لا وجوداً ولا عدماً ، بل الشك فيها دائماً إنّما هو في أصل ثبوتها من الأزل وعدم ثبوتها كذلك ، ومن المعلوم أنّه لا أصل هنا ليعتمد عليه في إثباتها من الأزل أو عدم إثباتها كذلك.

ومن هنا يظهر الحال فيما لو كان المبحوث عنه في هذه المسألة دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه ، حيث إنّه لا أصل على هذا الفرض أيضاً ليعوّل عليه في إثبات هذه الدلالة أو نفيها ، هذا كلّه في المسألة الاصولية.

وأمّا في المسألة الفرعية : فيجري الأصل فيها ـ وهو أصالة الفساد ـ وإنّما الكلام في أنّه هل يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات مطلقاً أو في المعاملات فحسب دون العبادات؟ فيه قولان.

فاختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الثاني ، وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ الأصل في جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضي الفساد ، لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة الخارجية المشكوك صحتها ، وبقاء متعلقها على ما كان قبل تحققها ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الشك لأجل شبهة حكمية أو موضوعية. وأمّا العبادة فان كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها. وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحة والفساد عند

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٢.

١٦١

الشك فيهما يبتني على الخلاف في جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في كبرى مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، هذا حسب ما تقتضيه القاعدة الأوّلية.

وأمّا بالنظر إلى القواعد الثانوية الحاكمة على القواعد الأوّلية فربّما يحكم بصحة العبادة أو المعاملة عند الشك فيها بقاعدة الفراغ أو التجاوز أو الصحة أو نحو ذلك.

وأمّا صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ففي بعض نسخ كتابه وإن كان هذا التفصيل موجوداً إلاّ أنّه ضرب خط المحو عليه واختار القول الأوّل ـ وهو الفساد مطلقاً ـ وقال : نعم ، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة ، وأمّا العبادة فكذلك لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

والصحيح هو ما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره من النظرية في المسألة بيان ذلك :

أمّا في العبادات : فلأنّ محل الكلام هنا ليس في مطلق الشك في صحة العبادة وفسادها سواء أكانت متعلقة للنهي أم لم تكن وكانت الشبهة موضوعية أم كانت حكمية ، بل محل الكلام إنّما هو في خصوص عبادة شك في صحتها وفسادها من ناحية كونها متعلقة للنهي ومحرّمة فعلاً ، وأمّا ما لا تكون كذلك فليس من محل الكلام في شيء ، سواء أكان الشك في صحتها وفسادها من ناحية الشك في انطباق المأمور به عليها أو من الشك في أصل مشروعيتها ، أو في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مع عدم الشك في أصل مشروعيتها ، فانّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.

١٦٢

كل ذلك خارج عن مفروض الكلام في المسألة. وعليه فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الأصل في هذه الموارد وإن كان تاماً في الجملة إلاّ أنّه أجنبي عن محل الكلام ، فمحل الكلام في المسألة ما ذكرناه.

وعلى هذا فلا محالة يكون مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد ، والسبب فيه واضح ، وهو أنّ العبادة إذا كانت محرّمة ومبغوضة فعلاً للمولى فبطبيعة الحال هي توجب تقييد إطلاق دليلها بغيرها ـ الحصة المنهي عنها ـ بداهة أنّ المحرّم لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، فاذن كيف يمكن الحكم بصحتها.

وإن شئت قلت : إنّ صحتها ترتكز على أحد أمرين : الأوّل : أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها. الثاني : أن تكون مشتملة على الملاك في هذا الحال ، ولكن شيئاً من الأمرين غير موجود. أمّا الأوّل : فلما عرفت من استحالة كون العبادة المنهي عنها مصداقاً للمأمور به. وأمّا الثاني : فلما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا يمكن إحراز اشتماله على الملاك إلاّبأحد طريقين : وجود الأمر به. وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وأمّا إذا افترضنا أنّه لا أمر ولا انطباق فلا يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، والمفروض فيما نحن فيه هو انتفاء كلا الطريقين معاً ، ومعه كيف يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، فانّ سقوط الأمر كما يمكن أن يكون لأجل وجود مانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل عدم المقتضي له في هذا الحال.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد مطلقاً.

وأمّا في المعاملات : فإن كان هناك عموم أو إطلاق وكان الشك في صحة المعاملة المنهي عنها وفسادها من جهة الشبهة الحكمية فلا مانع من التمسك به

١٦٣

لاثبات صحتها ، ضرورة أنّه لا تنافي بين كون معاملة محرمة ووقوعها صحيحة في الخارج ، إلاّ أنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، حيث إنّه فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق في البين يقتضي صحتها ، أو كان ولكنّ الشبهة كانت موضوعية فلا يمكن التمسك بالعموم فيها ، فعندئذ بطبيعة الحال المرجع هو الأصل العملي ، ومقتضاه الفساد.

مثلاً لو شككنا في صحة نكاح الشغار أو فساده ولم يكن دليل من الخارج على صحته أو فساده لا عموماً ولا خصوصاً فالمرجع هو الأصل ، وهو يقتضي فساده وعدم حصول العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة. وكذا الحال فيما إذا شككنا في صحة معاملة وفسادها من ناحية الشبهة الموضوعية.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ مقتضى الأصل في المعاملات أيضاً هو الفساد مطلقاً ، فلا فرق بينها وبين العبادات من هذه الناحية. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى وهي أنّه لا تنافي بين حرمة المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً كما ستأتي الاشارة إلى ذلك بشكل موسع (١) وهذا بخلاف العبادة فانّ حرمتها لا تجتمع مع صحتها كما عرفت.

وبكلمة واضحة : أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشادياً ومسوقاً لبيان مانعية شيء عنها كالنهي عن بيع الغرر أو بيع ما ليس عندك وما شاكل ذلك فلا إشكال في دلالته على الفساد ، ومن هنا قلنا بخروج هذا القسم من النهي عن محل الكلام في المسألة ، وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن البحوث المتقدمة بشكل موسع (٢) فالكلام هنا إنّما هو في دلالة النهي النفسي المولوي على الفساد

__________________

(١) في ص ١٦٦.

(٢) في ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٦٤

وعدم دلالته عليه ، بمعنى ثبوت الملازمة بين حرمة معاملة وفسادها وعدم ثبوتها ، وقد اختلفت كلمات الأصحاب حول ذلك ، ونسب إلى أبي حنيفة والشيباني (١) دلالة النهي على الصحة ، ونسب إلى آخر دلالته على الفساد ، وفصّل ثالث بين ما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبيب وما إذا تعلق بالسبب ، فعلى الأوّل يدل على الصحة دون الثاني.

واختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره حيث قال ـ بعد ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ـ : والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب ، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلاّفيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة (٢).

وإليك توضيح ما أفاده : وهو أنّ النهي إذا افترض تعلّقه بالتسبيب ، أي ايجاد الملكية من سبب خاص دون آخر كالنهي عن بيع الكلب مثلاً ، فبطبيعة الحال يدل على صحة هذا السبب ونفوذه في الشريعة وحصول الملكية به ، ضرورة أنّه لو لم يكن هذا السبب نافذاً شرعاً ولم تحصل الملكية به لكان النهي عن إيجادها به لغواً محضاً وكان نهياً عن غير مقدور لفرض أنّها لا تحصل بانشائها به ( السبب الخاص ) مع قطع النظر عن النهي ، فاذن لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن أمر غير مقدور وهو مستحيل.

ومن هنا يظهر الحال فيما إذا تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن تمليك المصحف لكافر ، فانّه يدل على صحة هذه المعاملة ـ وهي البيع ـ لوضوح أنّها لو لم تكن صحيحةً وممضاةً شرعاً لم تكن سبباً لحصول الملكية وبدون ذلك لا معنى

__________________

(١) شرح تنقيح الفصول : ١٧٣.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٩.

١٦٥

للنهي عن الملكية المسببة عن هذا السبب الخاص ، لفرض أنّه لا يقدر على إيجادها بايجاد سببها ، ومعه لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن غير مقدور وهو محال ، لاعتبار القدرة في متعلقه كالأمر.

وقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) تفصيلاً ثانياً في المقام : وهو أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب دلّ على الفساد وإذا تعلق بالسبب لم يدل عليه. هذه هي الأقوال في المسألة.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ النهي عن المعاملة لا يدل على فسادها وأ نّه لا ملازمة بين حرمة معاملة وبطلانها أصلاً ، بيان ذلك يحتاج إلى مقدمة : وهي أنّنا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية بشتى أشكالها وألوانها : التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدم منّا في أوّل بحث النواهي بصورة موسّعة أنّ حقيقة النهي وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل وبُعده عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرزٍ من قول أو فعل ، كما أنّ حقيقة الأمر وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك ، وهذا هو واقع الأمر والنهي. وأمّا الوجوب والحرمة والبعث والزجر وما شاكل ذلك فليس شيء منها مدلولاً للأمر والنهي ، بل الجميع منتزع من إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج ولا واقع موضوعي لها ما عدا ذلك ، فانّ الأمر والنهي لا يدلاّن إلاّعلى إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج دون غيره.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٧.

١٦٦

ومن ناحية ثالثة : أنّ لهذا الأمر الاعتباري متعلق وموضوع ، ومتعلقه هو فعل المكلف كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما شاكل ذلك ، وموضوعه العقل والبلوغ ودخول الوقت والاستطاعة والدم والخمر والخنزير وغير ذلك من الجواهر والأعراض.

أمّا الأوّل : وهو المتعلق فلا ينبغي الشك في عدم دخله في الحكم الشرعي أصلاً ولا يؤثر فيه أبداً ، لا في مرحلة التشريع والاعتبار ولا في مرحلة الفعلية والامتثال.

أمّا عدم دخله في مرحلة التشريع فواضح ، حيث إنّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على أيّ شيء ما عدا اختياره وإعمال قدرته. نعم ، نظراً إلى أنّ صدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل فبطبيعة الحال يتوقف اعتباره وصدوره منه على وجود داع ومرجح له ، والداعي له إنّما هو المصالح والحِكم الكامنة في نفس الأفعال والمتعلقات بناءً على ما هو المشهور بين العدلية ، أو في نفس الاعتبار والتشريع بناءً على ما ذهب إليه بعض العدلية والأشاعرة. ومن الواضح أنّ دخل تلك المصالح فيه على نحو دخل الداعي في المدعو لا على نحو دخل العلة في المعلول ، وإلاّ لزم خروج الحكم الشرعي عن كونه أمراً اعتبارياً بقانون التناسب والسنخية بينهما من ناحية ، وعن كونه فعلاً اختيارياً للشارع من ناحية اخرى.

وأمّا عدم دخله في مرحلة الفعلية فأيضاً واضح ، وذلك لأنّ فعلية الأحكام إنّما هي بفعلية موضوعاتها وتدور مدارها وجوداً وعدماً ، ولا تتوقف على فعلية متعلقاتها ، كيف فانّ فعليتها توجب سقوطها خارجاً.

وأمّا الثاني : وهو الموضوع فأيضاً لا دخل له في الحكم الشرعي أبداً ،

١٦٧

وذلك لما عرفت من أنّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على شيء ما عدا إرادته واختياره. نعم ، جعله حيث كان غالباً على نحو القضايا الحقيقية فبطبيعة الحال يكون مجعولاً للموضوع المفروض الوجود خارجاً ، فإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وإلاّ لزم الخلف ، أي ما فرض موضوعاً له ليس بموضوع ، ولأجل ذلك يطلق عليه السبب تارةً ، والشرط تارة اخرى فيقال : إنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والسفر بقدر المسافة شرط لوجوب القصر ، والبلوغ شرط للتكليف والبيع سبب للملكية وهكذا ، مع أنّه عند التحليل لا شرطية ولا سببية في البين أصلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ الموجودات الخارجية لا تؤثر في الأحكام الشرعية وإلاّ لكانت تلك الأحكام من الامور التكوينية بقانون التناسب والسنخية المعتبر في تأثير العلة في المعلول من ناحية ، ولخرجت عن كونها أفعالاً اختيارية من ناحية اخرى. وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون إطلاق الشرط على موضوعاتها مبنيّاً على ضرب من المسامحة ، نظراً إلى أنّها حيث اخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار فيستحيل انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ، فتكون من هذه الناحية كالسبب والشرط. مثلاً إذا جعل الشارع وجوب الحج للمستطيع على نحو القضية الحقيقية انتزع عنوان الشرطية للاستطاعة باعتبار أنّ فعلية وجوبه تدور مدار فعليتها خارجاً واستحالة انفكاكها عنها.

ومن هدى هذا البيان يظهر حال الأحكام الوضعية أيضاً ، تفصيل ذلك : أنّ الأحكام الوضعية على طائفتين :

إحداهما : منتزعة من الأحكام التكليفية وذلك كالجزئية والشرطية والمانعية وما شاكل ذلك.

١٦٨

وثانيتهما : مجعولة على نحو الاستقلال كالأحكام التكليفية ، وذلك كالملكية والزوجية والرقية والولاية وما شابه ذلك. أمّا الطائفة الاولى : فهي خارجة عن محل كلامنا في المسألة ، لما عرفت من أنّ محل الكلام فيها إنّما هو في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات.

وبعد ذلك نقول : إنّا قد حققنا في محلّه (١) أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب من أنّ صيغ العقود والايقاعات أسباب للمسببات خاطئ جداً ولاواقع موضوعي له أصلاً ، كما أنّا ذكرنا أنّه لا أصل لما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والسبب في ذلك : ما بيّناه في مبحث الانشاء والاخبار بشكل موسع (٢) ملخّصه : أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ لا واقع له أصلاً ، وذلك لأنّهم إن أرادوا به الايجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول ، بداهة أنّ اللفظ لا يعقل أن يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده. وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري فيرد عليه : أنّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن ، لوضوح أنّ اللفظ لا يكون سبباً لايجاده الاعتباري ولا آلة له ، كيف فانّ الأمر الاعتباري كما ذكرناه غير مرّة لا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار في افق النفس ، ولا يتوقف وجوده على أيّ شيء آخر غيره. نعم ، إبرازه في الخارج يحتاج إلى مبرز ، والمبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون كتابة أو إشارة خارجة ، وقد يكون فعلاً كذلك ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا إذا حلّلنا واقع المعاملات تحليلاً موضوعياً لم نجد

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٢١٩.

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٩٧ ـ ٩٨.

١٦٩

فيها إلاّ أمرين : الأوّل : الاعتبار القائم بنفس المعتبر بالمباشرة. الثاني : إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك. فالمعاملات أسامٍ للمركب من هذين الأمرين ، أي الأمر الاعتباري النفساني ، وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، مثلاً عنوان البيع والاجارة والصلح والنكاح لايصدق على مجرد الأمر الاعتباري النفساني بدون إبرازه في الخارج ، فلو اعتبر شخص في افق نفسه ملكية داره لزيد مثلاً من دون أن يبرزه في الخارج لم يصدق عليه أنّه باع داره أو وهب فرسه مثلاً ، كما أنّه لا يصدق تلك العناوين على مجرد الابراز الخارجي من دون اعتبار نفساني كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الايقاعات ، أو كان التكلم بها بداعٍ آخر لا بقصد إبراز ما في افق النفس من الأمر الاعتباري.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّ المعاملات بشتى ألوانها مركبة من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا وأسامٍ لهما ، وكلاهما أمر مباشري ولا يعقل التسبيب بالاضافة إلى ذاك الأمر الاعتباري.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد اتضح : أنّه ليس في باب المعاملات سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها ليقال إنّ النهي قد يتعلق بالسبب وقد يتعلق بالمسبب ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك قد اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلة الامضاء والجعل كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النكاح سنّتي » (٣) و « الصلح

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

(٣) المستدرك ١٤ : ١٤٩ / أبواب مقدمات النكاح ب ١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

١٧٠

جائز بين المسلمين » (١) ونحو ذلك ، كما أنّها مأخوذة كذلك في موضوع إمضاء العقلاء ، وعلى هذا فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء الشرعي على فعلية هذه المعاملات وتحققها في الخارج ، فمرجع قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) مثلاً إلى قولنا : إذا وجد شيء في الخارج وصدق عليه أنّه بيع فهو ممضى شرعاً ، ومن هنا قلنا فيما تقدم إنّ الصحة في المعاملات مجعولة شرعاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ نسبة صيغ العقود أو الايقاعات إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها ، بل نسبة المبرز ـ بالكسر ـ إلى المبرز ـ بالفتح ـ كما أنّ نسبتها إلى الامضاء الشرعي ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، كيف فانّ المعاملات بهذه العناوين الخاصة مأخوذة في موضوعه ، ومن المعلوم أنّ الموضوع ليس سبباً لحكمه وعلّة له. ومن هنا يظهر أنّ نسبة هذه المعاملات كما تكون إلى الامضاء الشرعي نسبة الموضوع إلى الحكم كذلك تكون نسبتها إلى الامضاء العقلائي.

وعلى أساس هذا البيان يظهر : أنّه لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية من هذه الناحية أصلاً ، فكما أنّه لا سببية ولا مسببية في باب الأحكام التكليفية حيث إنّ نسبتها إلى موضوعاتها كالاستطاعة والبلوغ والعقل ودخول الوقت وما شاكل ذلك ليست نسبة المعلول إلى العلة فلا تأثير ولا ارتباط بينهما ذاتاً ، فكذلك الحال في الأحكام الوضعية. وعليه فلم يظهر لنا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / كتاب الصلح ب ٣ ح ٢.

١٧١

لحدّ الآن وجه ما اصطلحوا عليه الفقهاء من التعبير عن موضوعات الأحكام التكليفية بالشرائط وعن موضوعات الأحكام الوضعية بالأسباب ، مع أنّهما من وادٍ واحد فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

وكيف كان ، فلا يقوم هذا الاصطلاح على واقع موضوعي ، حيث قد عرفت أنّه ليس في كلا البابين معاً إلاّجعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده في الخارج من دون أيّ تأثير له في ثبوت الحكم تكويناً. نعم ، لا بأس بالتعبير عن الموضوع بالشرط نظراً إلى رجوع القضية الحقيقية إلى القضية الشرطية ، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، ولكن هذا الشرط بمعنى آخر غير الشرط الذي هو من أجزاء العلة التامة.

وقد تحصّل من مجموع ما حققناه : أنّ الموجود في مورد المعاملة عدّة امور :

الأوّل : الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر بالمباشرة.

الثاني : إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك.

الثالث : الامضاء العقلائي ، وهو فعل اختياري للعقلاء وخارج عن اختيار المتعاملين.

الرابع : الامضاء الشرعي ، وهو فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، وقد تقدم أنّ موضوعه هو المعاملة بعناوينها الخاصة كالبيع أو نحوه.

وبعد ذلك نقول : إنّ النهي المتعلق بالمعاملة لا يخلو من أن يكون متعلقاً بالامضاء الشرعي المعبّر عنه في لسان الفقهاء بالملكية الشرعية ، أو متعلقاً بالامضاء العقلائي ، أو بالأمر الاعتباري النفساني ، أو بالمبرز الخارجي ، أو بالمجموع المركب منهما ، فلا سادس في البين.

أمّا الأوّل : وهو الامضاء الشرعي فلا معنى للنهي عنه ، بداهة أنّه فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، ومن الطبيعي أنّه

١٧٢

لا معنى لنهي الشارع عن فعل نفسه ، غاية الأمر إذا كانت فيه مفسدة ملزمة لم يصدر منه ، كما هو الحال في مثل بيع الكلب والخنزير والخمر والبيع الربوي وما شاكل ذلك ، فانّ عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات وعدم اعتباره الملكية فيها من جهة وجود مفسدة ملزمة في تلك المعاملات فانّها تكون مانعة منه ، لا أنّها موجبة للنهي عنه.

وتوهم أنّ هذه الدعوى لا تلائم مع نهي الشارع عن هذه المعاملات من ناحية ، وكون النهي عنها متوجهاً إلى المتعاملين من ناحية اخرى ، فاسد جداً ، وذلك لأنّ هذا النهي ليس نهياً تكليفياً ليقال إنّه غير معقول ، بل هو نهي إرشادي فيرشد إلى عدم إمضاء الشارع تلك المعاملات. وقد ذكرنا غير مرّة أنّ شأن النهي الارشادي شأن الاخبار ، فكأنّ المولى أخبر عن فساد هذه المعاملات وعدم إمضائها. نعم ، بعض هذه المعاملات ـ وهو المعاملة الربوية ـ وإن كان محرّماً تكليفاً أيضاً إلاّ أنّ الحرمة متعلقة بفعل المتعاملين لا بالامضاء الشرعي والملكية الشرعية ، وقد عرفت أنّ المعاملات أسامٍ للأفعال الصادرة عن آحاد الناس فلا مانع من تعلق الحرمة بها.

فالنتيجة : هي أنّه لا معنى لتعلق النهي بالملكية الشرعية ، ومن هنا يظهر الحال في :

الأمر الثاني : وهو الامضاء العقلائي ، فانّه حيث كان خارجاً عن اختيار المتعاملين فلا معنى للنهي عنه ولا يعقل تعلق النهي في باب المعاملات به.

وأمّا الثالث : وهو فرض تعلق النهي بالأمر الاعتباري النفساني فحسب ، فهو وإن كان شيئاً معقولاً في نفسه إلاّ أنّه لا يستلزم فساد المعاملة ، لأنّ النهي عنه لا يكون نهياً عن المعاملة حتى يستلزم فسادها ، لما عرفت من أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسامٍ للمركب من ذلك الأمر الاعتباري

١٧٣

النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما ، فلا تصدق على الاعتبار النفساني فحسب ، ولا على المبرز الخارجي كذلك. وعلى هذا الضوء فما يتعلق به النهي ليس بمعاملة وما هو معاملة ليس بمنهي عنه.

وإن شئت قلت : إنّ تعلق النهي بذلك الأمر الاعتباري النفساني مع قطع النظر عن إبرازه في الخارج غير محتمل في نفسه ، وعلى تقدير تعلقه به فهو لا يدل على صحة المعاملة ولا على فسادها.

وأمّا الرابع : وهو فرض تعلق النهي بالمبرز ـ بالكسر ـ فحسب ، فقد ظهر أنّه لا يستلزم فساد المعاملة أيضاً ، حيث إنّ النهي عنه لا يكون نهياً عنها حتى يدل على فسادها ، ومثال ذلك : ما إذا افترضنا أنّ أحداً تكلم أثناء الصلاة بقوله : بعت داري أو زوجتي طالق أو ما شاكل ذلك ، فانّ التكلم بهذا القول بما هو قول آدمي أثناء الصلاة وإن كان محرّماً بناءً على نظرية المشهور ، بل ادعي الاجماع على ذلك ، إلاّ أنّ هذه الحرمة لا تدل على فساد هذا العقد أو الايقاع ، لوضوح أنّ المحرّم إنّما هو التكلم بهذه الصيغة بما هي كلام آدمي ، لا بما هي بيع أو إجارة أو طلاق أو نحو ذلك ، فاذن لا يكون نهي عن المعاملة ليقال باستلزامه فسادها.

نتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن : هي أنّ النهي عن الأمر الأوّل والثاني غير معقول في نفسه ، وأمّا النهي عن الأمر الثالث والرابع وإن كان معقولاً إلاّ أنّه ليس نهياً عن المعاملة بما هي معاملة ليقع البحث عن أنّه هل يدل على فسادها أم لا.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني ـ وهو الذي اختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً من أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب أو التسبيب يدل على الصحة ـ خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبداً.

١٧٤

أمّا أوّلاً : فلما عرفت في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من أنّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً كي يفرض تارةً تعلق النهي بالسبب واخرى بالمسبب وثالثاً بالتسبيب.

وأمّا ثانياً : فلما تقدم من أنّهم فسّروا المسبب فيها بالملكية الشرعية ، وقد عرفت أنّه لا معنى للنهي عنها ليقال إنّه يدل على الصحة.

وأمّا ثالثاً : فعلى تقدير تسليم أنّهم أرادوا بالمسبب فيها الاعتبار النفساني ولكن قد عرفت أنّ النهي عنه في إطاره الخاص لا يكون نهياً عن المعاملة ليقال إنّه يدل على صحتها. وعلى الجملة : فصحة المعاملة تابعة لامضاء الشارع إيّاها ولا صلة لها بالنهي عن الأمر الاعتباري النفساني أصلاً.

وأمّا الخامس : وهو فرض تعلق النهي بالمعاملة من العقود أو الايقاعات ولو باعتبار جزئها الداخلي أو الخارجي ، فقد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ الحق في المقام هو التفصيل بين تعلق النهي بالسبب على نحو يساوق معنى المصدر وتعلقه بالمسبب على نحو يساوق معنى اسم المصدر ، فالتزم قدس‌سره أنّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه ، بيان ذلك :

أمّا وجه عدم دلالة الأوّل على الفساد ، فلأنّ الانشاء في المعاملة بما أنّه فعل من أفعال المكلف فالنهي عنه إنّما يدل على مبغوضيته فحسب ، ومن الطبيعي أنّ مبغوضيته لا تستلزم فساد المعاملة وعدم ترتب أثر شرعي عليها ، ضرورة أنّه لا منافاة بين حرمة إنشاء المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً.

وأمّا وجه دلالة الثاني على الفساد ، فلما ذكره قدس‌سره من أنّ صحة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٧.

١٧٥

المعاملة ترتكز على ركائز ثلاث :

الاولى : أن يكون كل من المتعاملين مالكاً للعين أو ما بحكمه كالوكيل أو الولي أو ما شاكل ذلك.

الثانية : أن لا يكون ممنوعاً عن التصرف بأحد أسباب المنع كالسفه أو الفلس أو الحجر لتكون له سلطنة فعلية على التصرف فيها.

الثالثة : أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاص وآلة خاصة ، وعلى ذلك فاذا فرض تعلق النهي بالمسبب وهو الملكية المنشأة بالصيغة أو بغيرها كما هو الحال في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر ، فلا محالة يكون النهي عنه معجّزاً مولوياً للمكلف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه ، وبذلك تختل الركيزة الثانية المعتبرة في صحة المعاملة ـ وهي سلطنة المكلف عليها في حكم الشارع وعدم كونه ممنوعاً عن التصرف فيها ـ ويترتب على هذا فساد المعاملة لا محالة.

وعلى ضوء ذلك يظهر : وجه تسالم الفقهاء على فساد الاجارة على الأعمال الواجبة على المكلف مجاناً ، فانّ العمل بما أنّه مملوك لله تعالى وخارج عن سلطان المكلف فلا يمكنه تمليكه من غيره باجارة أو نحوها ، وكذا وجه تسالمهم على بطلان بيع منذور الصدقة ، فانّ نذره أوجب حجره عن التصرف بكل ما ينافي الوفاء بنذره فلا تنفذ تصرفاته المنافية له ، وكذا وجه تسالمهم على فساد معاملة شيء إذا اشترط في ضمنها عدم معاملته من شخص آخر كما إذا فرض أنّه باع داره من زيد مثلاً واشترط عليه عدم بيعها من عمرو ، فانّ وجوب الوفاء بهذا الشرط يجعل المشتري محجوراً من البيع ، فلو خالف وباع الدار من عمرو لم يكن نافذاً ، وغير ذلك من الموارد.

١٧٦

ولكن من ضوء ما حققناه في ضمن البحوث السالفة قد تبيّن نقد ما أفاده قدس‌سره ملخّص ما ذكرناه هناك : هو أنّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً لكي يفرض تعلق النهي مرّةً بالسبب واخرى بالمسبب ، كما أنّا ذكرنا هناك أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة ليست من قبيل نسبة السبب إلى المسبب ، ولا المصدر إلى اسم المصدر ، وأمّا نسبتها إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي من قبيل نسبة الموضوع إلى الحكم لا السبب إلى المسبب كما عرفت ولا المصدر إلى اسم المصدر ، بداهة أنّ المصدر واسم المصدر كما مرّ متحدان ذاتاً ووجوداً ومختلفان اعتباراً كالايجاد والوجود ، ومن المعلوم أنّ صيغ العقود أو الايقاعات تباين الملكية الانشائية وجوداً وذاتاً ، فلا صلة بينهما إلاّصلة الابراز ، أي كونها مبرزة لها ، كما أنّه لا صلة بينها وبين الملكية الشرعية أو العقلائية إلاّصلة الموضوع والحكم.

وعلى ذلك فإن أراد شيخنا الاستاذ قدس‌سره من المسبب الملكية الشرعية فقد تقدم ـ مضافاً إلى أنّها ليست مسببة عن شيء ـ أنّ النهي عنها غير معقول ، وإن أراد به الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة المبرزة في الخارج بالصيغ المزبورة ، أو نحوها فقد عرفت أنّ النهي عنها لا يوجب فساد المعاملة وإن فرض تعلقه بها بوصف كونها مبرزة في الخارج بمبرز ما كما هو مفروض الكلام هنا ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين حرمة معاملة تكليفاً وفسادها وضعاً ، فلا مانع من أن تكون المعاملة محرّمةً شرعاً كما إذا أوقعها أثناء الصلاة مثلاً ، فانّها محرّمة على المشهور ، ومع ذلك يترتب عليها أثرها. ومن هنا لو أوقع شخص طلاق زوجته أثناء الصلاة لم يشك أحد في صحته إذا كان واجداً لسائر شرائط الصحة ، وكذا لو باع داره أثناءها مع أنّه

١٧٧

منهي عنه على المشهور ومحرّم.

وعلى الجملة : فالنهي المولوي عن الأمر الاعتباري بوصف كونه مبرزاً في الخارج ، وكذا النهي عن المبرز ـ بالكسر ـ بوصف كونه كذلك لا يدلاّن بوجه على فساد المعاملة لعدم التنافي بين حرمتها وصحتها أصلاً ، وإنّما يدل النهي على فساد العبادة من ناحية التنافي بينهما وعدم إمكان الجمع كما عرفت.

وبكلمة اخرى : أنّ النهي عن المسبب بالمعنى المتقدم في باب المعاملات لا يوجب تقييد إطلاق دليل الامضاء بغير الفرد المنهي عنه إذا كان له إطلاق يشمله بنفسه ، وذلك لما عرفت من عدم التنافي بين حرمته تكليفاً وإمضاء الشارع إيّاه وضعاً ، حيث إنّ كلاً منهما في إطاره الخاص تابع لملاك كذلك ولا تنافي بين الملاكين أصلاً ، والسر فيه واضح ، وهو أنّه إذا كان لدليل الامضاء كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) أو نحوه إطلاق أو عموم ، فالنهي تكليفاً عن معاملة في موردٍ لا يوجب تقييد إطلاقه أو تخصيص عمومه بغيرها ، لعدم كونه مانعاً عن شموله لها ، كيف حيث إنّه لا تنافي بين كون معاملة محكومة بالحرمة تكليفاً وكونها محكومة بالصحة وضعاً ، ولذا صحّ تصريح المولى بذلك ، فإذا لم تكن منافاة بينهما فلا مانع من التمسك باطلاقه أو عمومه لاثبات صحتها.

ومن هنا يظهر أنّ مثل هذا النهي لا يوجب حجر المكلف ومنعه عن إيجاده وعدم إمضاء الشارع إيّاه عند تحققه ، فانّ ما يوجب ذلك إنّما هو النهي الوضعي دون التكليفي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ قياس المقام بموارد ثبوت الحجر الوضعي

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

١٧٨

خاطئ جداً وأ نّه قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ النهي عن المعاملة في تلك الموارد إرشاد إلى فسادها ، حيث إنّ المكلف ممنوع من التصرف فيها وضعاً ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ما رتّبه قدس‌سره من الفروع على ما ذكره من الضابط أيضاً قابل للنقد بيان ذلك :

أمّا الفرع الأوّل : وهو تسالم الفقهاء على بطلان الاجارة على الواجبات المجانية ، فانّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ البطلان غير مستند إلى ما أفاده قدس‌سره من كون تلك الواجبات مملوكة له ( سبحانه وتعالى ) بل هو مستند إلى نقطة اخرى ، فلنا دعويان : الاولى : أنّ بطلان الاجارة غير مستند إلى ما ذكره. الثانية : أنّه مستند إلى نقطة اخرى.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ نحو ملكه تعالى لشيء يغاير نحو الملك الاعتباري فلا يوجب بطلان العقد عليه ، فانّ معنى كون هذه الواجبات مملوكة له تعالى هو إضافتها إليه سبحانه ، ومن البديهي أنّ مجرد هذه الاضافة لا يقتضي بطلان الاجارة عليها وإلاّ لزم بطلانها في كل مورد يتصف متعلقها بالوجوب ولو كان الوجوب كفائياً كما في الصناعات الواجبة كذلك ، وهذا مما لا نظن أن يلتزم به أحد حتى هو قدس‌سره.

فالنتيجة : أنّ مقتضى القاعدة صحة الاجارة على الواجبات ، فالوجوب بما هو لا يقتضي سلب المالية عنها ولا يوجب خروجها عن قابلية التمليك.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ المانع من صحة الاجارة عليها إنّما هو إلزام الشارع بالاتيان بها مجاناً ، ومن الطبيعي أنّ هذا العنوان لا يجتمع مع عنوان الاجارة عليها.

وبكلمة اخرى : قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية جواز الاجارة على

١٧٩

كل واجب إلاّما قامت القرينة من الخارج على لزوم الاتيان به مجاناً وبلا عوض ، وعلى هذا فبما أنّنا علمنا من الخارج بوجوب الاتيان بتلك الواجبات مجاناً ومن دون عوض ، فبطبيعة الحال لا تصحّ الاجارة عليها ، فالنتيجة : أنّ البطلان مستند إلى هذه النقطة دون ما أفاده قدس‌سره.

وأمّا الفرع الثاني : وهو بيع منذور الصدقة ، فانّ النذر إذا لم يكن نذر النتيجة فلا يكون بطلان بيع المنذور مما تسالم عليه الفقهاء ، بل هو محل خلاف بينهم ، فاذن كيف يجوز الاستشهاد به على بطلان المعاملة فيما نحن فيه. وبقول آخر : أنّ النذر المتعلق بشيء على قسمين : أحدهما : نذر النتيجة. وثانيهما : نذر الفعل. أمّا الأوّل فعلى تقدير تسليم صحته فهو وإن كان يوجب بطلان البيع نظراً إلى أنّ المال المنذور قد انتقل من ملك الناذر إلى ملك المنذور له ، وعليه فلا محالة يكون بيع الناذر إيّاه بيع لغير ملكه فيلحقه حكمه ، إلاّ أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه قدس‌سره حيث إنّ كلامه ناظر إلى أنّ المانع عن صحة بيعه هو وجوب الوفاء به ، لا صيرورة المال المنذور ملكاً للمنذور له ، هذا.

والصحيح أنّ وجوب الوفاء به غير مانع عنها ، والسبب في ذلك : هو أنّ وجوب الوفاء بالنذر لا ينافي إمضاء البيع ، حيث إنّه لا منافاة بين لزوم إبقاء المال على الناذر تكليفاً بمقتضى التزامه به وصحة البيع وضعاً على تقدير تحققه في الخارج ، غاية الأمر أنّه يترتب على البيع المزبور استحقاق العقاب على المخالفة ولزوم الكفارة ، ومن الطبيعي أنّ شيئاً منهما لا يستلزم بطلان البيع ، بل إذا افترضنا أنّ المال المنذور قد انتقل إليه ثانياً بعد بيعه وفي ظرف الوفاء بالنذر لم يلزم الحنث أيضاً من هذه الناحية ، أي من ناحية بيعه إيّاه.

وعلى الجملة : حيث إنّه كان وجوب الوفاء بالنذر وجوباً تكليفياً محضاً

١٨٠