محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

بانتفاء واحد منهما ، وإذا كان أحدهما لا بعينه لم ينتف إلاّبانتفاء الجميع.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد القضية الشرطية هو تعليق الجزاء على الشرط ، وأمّا كون الشرط واحداً أو متعدداً وعلى تقدير التعدد كان ملحوظاً على نحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي فكل هذه الخصوصيات خارجة عن مفادها فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة ، نظير ذلك لفظ « كل » فانّه موضوع للدلالة على إرادة العموم والشمول بالاضافة إلى أفراد مدخوله ومتعلقه ، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة لا تختلف باختلاف مدخوله سعةً وضيقاً ، ضرورة أنّه غير ناظر إلى ذلك أصلاً ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل عالم ، وقولنا : أكرم كل إنسان ، فانّ كلمة « كل » في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد ، وهو الدلالة على إرادة عموم أفراد مدخوله.

إلى هنا قد ظهر لنا هذه النتيجة وهي الفرق بين القضية الشرطية والقضية الحقيقية مثل قولنا : يجب على المسافر القصر وعلى الحاضر التمام وما شاكل ذلك ، فانّ المبرز عن اعتبار المولى إن كان هو القضية الحقيقية فهي لا تدل على المفهوم ، لما تقدم من أنّ مدلولها هو قصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع الخاص المفروض وجوده في الخارج ، ولا يستلزم نفيه عن غيره كما هو واضح وأشرنا إليه آنفاً أيضاً ، وهذا بخلاف القضية الشرطية كقولنا : إن سافرت فقصّر ، فانّها كما تدل على ثبوت وجوب القصر عند ثبوت السفر وتحققه ، كذلك تدل على نفيه عند عدم تحققه ، والحجر الأساسي لهذا الفرق هو أنّ عنوان المسافر أو نحوه بما أنّه قد اخذ موضوعاً للحكم بنفسه في القضية الحقيقية فبطبيعة الحال لا تدل إلاّعلى ثبوته لهذا الموضوع الخاص ولا تدل على نفيه عن غيره. ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وأمّا في القضية الشرطية فالموضوع فيها هو نفس المكلف في المثال المتقدم

٢٢١

وحيث إنّ له حالتين : حالة سفره ، وحالة عدم سفره ، فالمولى قد علّق الحكم على إحدى حالتيه وهي حالة سفره ، وعليه فلا محالة تدل على انتفائه عند انتفاء هذه الحالة. ومن هنا قلنا إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين : هما كون الموضوع فيها غير الشرط ، وأن لا يكون توقف الجزاء عليه عقلياً.

قد وصلنا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة : وهي أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم بناءً على وجهة نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء من الواضحات ، وأمّا بناءً على نظرية المشهور في هذين البابين فلا يمكن إثبات دلالتها عليه.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ المراد من المفهوم ليس كل معنى يفهم من اللفظ ، بل المراد منه حصة خاصة من المعنى ، في مقابل المنطوق حيث إنّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة ، والمفهوم يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية المستندة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم.

الثانية : تمتاز الملازمة بين المفهوم والمنطوق عن الملازمة في مباحث الاستلزامات العقلية ـ كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وبين وجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك ـ في نقطة ، وهي أنّ الملازمة بينهما هنا من اللزوم البيّن بخلاف الملازمة هناك فانّها غير بيّنة ، وعلى ضوء هذه النقطة قد خرجت دلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه عن المفهوم حيث إنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن فتحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف اللزوم في موارد الدلالة على المفهوم ، فانّه بيّن فلا تحتاج الدلالة عليه إلى ضم مقدمة خارجية ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث جعل اللزوم في

٢٢٢

تلك الموارد من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، وقد تقدم نقده.

الثالثة : أنّ كون مسألة المفاهيم من المسائل الاصولية واضح حيث تتوفر فيها ركائزها ، وإنّما الكلام في أنّها من المسائل الاصولية العقلية أو اللفظية ، وقد تقدم أنّ لها حيثيتين واقعيتين : فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصولية العقلية ، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصولية اللفظية ، ولكن لا أثر للبحث عن هذه الجهة أصلاً.

الرابعة : أنّ محل الكلام ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده ، بل إنّما هو في أصل وجوده كما هو الحال في جميع مباحث الألفاظ.

الخامسة : أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركائز ، وتلك الركائز وإن تتم بعضها ولكن بما أنّها لا تتم جميعاً فلا دلالة لها على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.

السادسة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد أخذ طريقاً آخر لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو التمسك باطلاق الشرط. وقد تقدم نقده بشكل موسّع.

السابعة : أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء ، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في هذين البابين. وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسّعة.

بقي أُمور

الأوّل : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط عند انتفائه ، وأمّا انتفاء شخصه فهو إنّما يكون بانتفاء موضوعه ولو بلحاظ انتفاء بعض قيوده وحالاته ، ومن الطبيعي أنّه عقلي ولا صلة له بدلالة اللفظ أبداً ،

٢٢٣

مثلاً انتفاء شخص وجوب الاكرام المنشأ في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه بانتفاء المجيء الذي هو من حالات الموضوع وقيوده عقلي ولا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم أصلاً ، ضرورة استحالة بقاء المعلّق بدون المعلّق عليه ، ومن هنا لو لم نقل بدلالتها على المفهوم أيضاً انتفى هذا الوجوب الخاص بانتفاء ما علّق عليه وهو المجيء في المثال.

فالذي يصلح أن يكون محلاً للنزاع ومورداً للكلام بين الأصحاب إنّما هو دلالة القضية الشرطية على انتفاء فرد آخر من هذا الحكم عن الموضوع المذكور فيها عند انتفاء الشرط وعدم ثبوته ، ومن الطبيعي أنّ الحكم لو ثبت له في هذه الحالة ـ أي حالة انتفاء الشرط ـ لا محالة كان حكماً آخر غير الحكم الثابت له عند ثبوت الشرط ، غاية الأمر أنّه من سنخه ، ومن المعلوم أنّ ثبوت هذا الحكم له في تلك الحالة وعدم ثبوته كلاهما أمر ممكن بحسب مقام الثبوت ، والكاشف عن عدم ثبوته وانتفائه في مقام الاثبات إنّما هو دلالة القضية الشرطية على المفهوم.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط ، لا انتفاء شخص هذا الحكم ، فانّه كما عرفت أمر عقلي وضروري عند انتفاء المعلّق عليه وليس قابلاً للنزاع.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّه ليس انتفاء الحكم في باب الوصايا والأقارير والأوقاف وما شاكلها عن غير مواردها من باب الدلالة على المفهوم كما توهم ، بل نسب إلى الشهيد قدس‌سره في تمهيد القواعد (١) أنّه نفى الاشكال عن دلالة هذه القضايا على المفهوم بدعوى أنّها تدل على انتفاء

__________________

(١) تمهيد القواعد : ١١٠ ، القاعدة «٢٥».

٢٢٤

الوصية عن غير موردها ، وانتفاء الوقف عن غير الموقوف عليه ، وانتفاء الاقرار عن غير موضوعه ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي لايرتبط بدلالة اللفظ أبداً ، والموارد المذكورة من هذا القبيل ، لوضوح أنّ الواقف إذا أوقف شيئاً على عنوان خاص كعنوان أولاده الذكور مثلاً أو على عنوان عام كعنوان أهل العلم أو السادة أو ما شاكل ذلك فبطبيعة الحال ينتفي الوقف بانتفاء هذا العنوان ، كما أنّه منتفٍ عن غيره من العناوين ، وكلاهما غير منوط بدلالة اللفظ. أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي فلا صلة له باللفظ أبداً. وأمّا الثاني فلعدم المقتضي حيث إنّه جعل وقفاً على العنوان المزبور فحسب ، فانتفاؤه عن غيره ليس من ناحية دلالة اللفظ ، بل هو من ناحية عدم المقتضي لثبوته ، وكذلك الحال في غيره من الموارد.

فالنتيجة : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط بانتفائه ، ونقصد بسنخ الحكم الحكم الكلي المنشأ في الجزاء فانّه بما هو حكم ينتفي عن الموضوع مطلقاً بانتفاء شرطه ، لا خصوص الفرد الثابت منه ، فيمتاز المفهوم من هذه الناحية عن مطلق انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر : أنّ الحكم المستفاد من الجزاء المعلّق على الشرط إذا كان مفهوماً اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة وجب أو يجب أو ما شاكل ذلك ، فلا إشكال في دلالة القضية الشرطية عندئذ على المفهوم ، نظراً إلى أنّه حكم كلي. وأمّا إذا كان مفهوماً حرفياً ومستفاداً من الهيئة فقد يشكل في دلالة القضية على المفهوم حينئذ ، نظراً إلى أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي ، وقد عرفت أنّ انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي ولا صلة له بدلالة القضية على المفهوم أصلاً ، فانّ معنى دلالتها هو انتفاء سنخ

٢٢٥

الحكم بانتفاء شرطه.

ومن هنا فصّل شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) بين ما كان الحكم في الجزاء مستفاداً من المادة كقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور » وما كان مستفاداً من الهيئة كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث إنّه قدس‌سره التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأوّل دون الثاني بملاك أنّ الحكم في الأوّل كلي وفي الثاني جزئي.

وقد اجيب عن هذا الاشكال بوجوه عديدة ، ولكن بما أنّ تلك الوجوه بأجمعها مبنية على أساس وجهة نظر المشهور في باب الانشاء فلا يجدينا شيء منها ، لما تقدم من فساد هذه النظرية ، فعليه لسنا بحاجة إلى بيان تلك الوجوه والمناقشة فيها.

وأمّا على ضوء نظريتنا في باب الانشاء فلا مجال لهذا الاشكال أبداً ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من أنّه لا واقع موضوعي للوجوب والثبوت ما عدا اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، ومن الطبيعي أنّه لا يفرق في المبرز بين القول والفعل ، كما أنّه لا يفرق في القول بين الهيئة والمادة ، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بالاعتبار النفساني ، ومن المعلوم أنّه لا يختلف باختلاف المبرز والكاشف ، كيف حيث إنّه لا شأن له ما عدا ذلك ، وعلى هذا فالمولى مرّةً يعتبر الفعل على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ومرّةً اخرى يعتبره على تقدير خاص دون آخر كاعتبار الصلاة والطهارة على ذمة المكلف على تقدير زوال الشمس لا مطلقاً ، واعتبار الحج على تقدير الاستطاعة ، وهكذا.

فاذا كان الاعتبار قابلاً للاطلاق والتقييد فالقضية الشرطية بمنطوقها تدل

__________________

(١) [ لاحظ مطارح الأنظار : ١٧٣ فانّه صرّح بعدم التفصيل ].

٢٢٦

على التعليق ، أي تعليق الاعتبار على الشرط ، وبمفهومها تدل على انتفاء هذا الاعتبار عند انتفاء الشرط والمعلّق عليه ، ومن الواضح أنّه لا فرق في دلالة القضية عليه بين أن يكون المبرز عن ذلك الاعتبار النفساني هيئةً كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، أو قولنا : إن استطعت فحج ، أو مادةً كقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة » (١) أو ما شاكل ذلك.

والسبب فيه : هو أنّه لا واقع موضوعي لهذا الاشكال بناءً على ضوء نظريتنا ، لوضوح أنّ الاعتبار المزبور كما عرفت قابل للاطلاق والتقييد ، فاذا افترضنا أنّ المولى اعتبره مقيداً بشيء ومعلّقاً عليه من دون اقتضائه ذلك بنفسه فبطبيعة الحال ينتفي بانتفائه ، والمبرز عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو القضية الشرطية على نحو الالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخص. أو فقل : إنّ الملازمة بين ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت هذا الشيء وانتفائه عند انتفائه موجودة في مقام الثبوت ، فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ، ولا نقصد بالمفهوم إلاّذلك ، ومن المعلوم أنّه لا فرق فيه بين أن يكون الجزاء مستفاداً من المادة أو الهيئة.

الثاني : أنّه لا فرق فيما حققناه من دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً كالأمثلة المتقدمة أو ما شاكلها أو يكون متعدداً ، سواء أكان تعدده على نحو التركيب أو التقييد ، والأوّل كقولنا : إن جاءك زيد وأكرمك وسلّم عليك فأكرمه ، فانّ الشرط مركب من امور :

المجيء ، والاكرام ، والسلام ، ولازم ذلك هو انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد منها.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٢ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

٢٢٧

والثاني كقولنا : إن ركب الأمير في يوم الجمعة والساعة الفلانية فخذ ركابه ، فيكون الشرط وهو الركوب مقيداً بقيدين : هما يوم الجمعة والساعة الفلانية ، وبانتفاء كل منهما ينتفي الحكم لا محالة.

فالنتيجة : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين كون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً. نعم ، على الأوّل ينتفي الحكم المستفاد من الجزاء بانتفائه ، وعلى الثاني ينتفي بانتفاء المجموع ، وانتفاؤه تارةً يكون بانتفاء جميع أجزائه أو قيوده ، واخرى بجزء أو قيد منه ، وهذا ظاهر.

الثالث : أنّ الحكم الثابت في الجزاء المعلّق على الشرط على نوعين :

أحدهما : أنّه حكم غير انحلالي وذلك كوجوب الصلاة والحج وما شاكل ذلك حيث إنّه ثابت لطبيعي الفعل على نحو صرف الوجود ، ومن المعلوم أنّه لا ينحل بانحلال أفراده ومصاديقه. نعم ، هو ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج ـ وهو المكلف ـ ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يكون مفهوم القضية الشرطية هو انتفاء هذا الحكم بانتفاء شرطه.

وثانيهما : أنّه حكم انحلالي كقوله « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » (١) فانّ الشيء نكرة وبما أنّه وقع في سياق النفي فبطبيعة الحال يدل على العموم ، وعليه فلا محالة ينحل الحكم المجعول في الجزاء المعلّق على الشرط المذكور في القضية بانحلال أفراده ومصاديقه في الخارج ، هذا مما لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في مفهوم مثل هذه القضية وهل هو إيجاب جزئي أو كلي؟ فيه وجهان بل قولان.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).

٢٢٨

اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره القول الثاني وقد أفاد في وجه ذلك ما هو نصه : ولكنّ التحقيق أن يقال : إنّ النظر في علم الميزان بما أنّه مقصور على القواعد الكلية لتأسيس البراهين العقلية لا ينظر فيه إلى الظواهر ، ومن ثمّ جعلت الموجبة الجزئية نقيضاً للسالبة الكلية ، وهذا بخلاف علم الاصول فانّ المهم فيه هو استنباط الحكم الشرعي من دليله ويكفي في ذلك إثبات ظهور الكلام في شيء وإن لم يساعده البرهان المنطقي ، فلا منافاة بين كون نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية وظهور القضية التي علّق فيها السالبة الكلية على شيء في ثبوت الموجبة الكلية بانتفاء ذلك الشيء ، فبين النظرين عموم وخصوص من وجه ، وعلى ذلك فان كان المعلّق على الشرط بحسب ظاهر القضية الشرطية هو نفس عموم الحكم وشموله كما في العام المجموعي ، فلا محالة كان المنتفي بانتفاء الشرط هو عموم الحكم أيضاً فلا يكون المفهوم حينئذ إلاّ موجبة جزئية. وأمّا إذا كان المعلّق على الشرط هو الحكم العام أعني به الحكم المنحل إلى أحكام عديدة بانحلال موضوعه إلى أفراده ومصاديقه ، كان المعلّق في الحقيقة على وجود الشرط حينئذ هو كل واحد من تلك الأحكام المتعددة فيكون المنتفي عند انتفاء الشرط هو كل واحد من تلك الأحكام أيضاً.

وبالجملة : الحكم الثابت في الجزاء ولو فرض كونه استغراقياً ومنحلاً إلى أحكام متعددة إلاّ أنّ المعلّق على الشرط في القضية الشرطية تارةً يكون هو مجموع الأحكام ، واخرى كل واحد واحد منها ، وعلى الأوّل فالمفهوم يكون جزئياً لا محالة ، بخلاف الثاني فانّه فيه كلي كالمنطوق ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات : فان كان العموم المستفاد من التالي معنىً اسمياً مدلولاً عليه بكلمة كل وأشباهها ، أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو

٢٢٩

نفس العموم أو الحكم العام فلا بدّ في تعيين أحدهما من إقامة قرينة خارجية. وأمّا إذا كان معنىً حرفياً مستفاداً من مثل هيئة الجمع المعرّف باللام ونحوها وغير قابل لأن يكون ملحوظاً بنفسه ومعلّقاً على الشرط ، أو كان مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي ولم يكن هو بنفسه مدلولاً عليه باللفظ ، فلا محالة يكون المعلّق في القضية الشرطية حينئذ هو الحكم العام كما في الرواية المزبورة ، إذ المعلّق على الكرية فيها إنّما هو عدم تنجس الماء بملاقاة كل واحد من النجاسات ، لأنّه مقتضى وقوع النكرة في سياق النفي ، فتدل الرواية على عدم تنجس الكر من الماء بملاقاة البول أو الدم أو نحوهما ، فيثبت بانتفاء الشرط ـ أعني به كرية الماء ـ تنجسه بملاقاة كل واحد منها ، فلا معنى حينئذ للقول بأنّ المفهوم موجبة جزئية وأ نّه لا يثبت بالرواية إلاّتنجس الماء القليل بملاقاة نجسٍ مّا دون جميع النجاسات ، هذا.

مع أنّا لو قلنا بأنّ المفهوم فيما لو كان التالي سالبة كلية لا يكون إلاّموجبة جزئية لما ترتب عليه أثر في خصوص المثال ، لأنّه إذا تنجس الماء القليل بنجسٍ مّا ثبت تنجسه بكل نجس من أنواع النجاسات ، إذ لا قائل بالفصل بينها ، فلا تترتب ثمرة على البحث عن كون مفهوم الرواية موجبة كلية أو موجبة جزئية.

وأمّا توهم أنّ ما تدل عليه الرواية على القول بكون المفهوم موجبة جزئية إنّما هو تنجسه بملاقاة نجسٍ مّا ، غاية الأمر أنّه يتعدى من ذلك إلى بقية النجاسات بعدم القول بالفصل ، لكن عدم القول بالفصل مختص بالأعيان النجسة فلا يمكن إثبات تنجس الماء القليل بملاقاته المتنجس إلاّعلى تقدير كون المفهوم موجبة كلية فهو مدفوع بأ نّه ليس المراد من الشيء المذكور في الرواية هو كل ما يصدق عليه أنّه شيء ، إذ لا معنى لاشتراط عدم انفعال الماء

٢٣٠

عند ملاقاته الأجسام الطاهرة بكونه كراً ، بل المراد به هو الشيء الذي يكون في نفسه موجباً لتنجس ملاقيه ، وعليه فان ثبت من الخارج تنجيس المتنجس فذلك يكفي في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته من دون احتياج في ذلك إلى التمسك بمفهوم الرواية ، وإن لم يثبت ذلك فالمتنجس غير داخل في عموم المنطوق لتثبت بمفهومها نجاسة الماء القليل بملاقاته على تقدير كون المفهوم موجبة كلية (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ بين النظر المنطقي والنظر الاصولي عموماً من وجه حيث إنّ الأوّل يقوم على أساس البراهين العقلية ـ سواء أكانت مطابقة لظاهر الدليل أم لم تكن ـ والثاني يقوم على أساس الدليل في المسألة والحجة فيها ، وهو قد يكون مطابقاً للبرهان العقلي وقد لا يكون.

الثانية : أنّ العام المعلّق على الشرط في ظاهر القضية الشرطية قد يكون عاماً مجموعياً وقد يكون استغراقياً ، فعلى الأوّل يكون مفهومها قضية جزئية ، وعلى الثاني قضية كلية.

الثالثة : أنّ العموم المستفاد من الجزاء في مقام الاثبات إن كان معنى اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة « كل » أو ما شاكلها أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو العموم المجموعي ، كما أمكن أن يكون هو العموم الاستغراقي. وإن كان معنىً حرفياً بأن يكون مستفاداً من هيئة الجمع المعرّف باللام أو نحوها أو مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي فلا محالة يكون المعلّق على الشرط هو العموم الاستغراقي ، والرواية المزبورة من هذا القبيل حيث إنّ العموم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩.

٢٣١

فيها مستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي.

الرابعة : أنّا إذا افترضنا أنّ مفهوم السالبة الكلية لا يكون إلاّموجبةً جزئيةً إلاّ أنّه لا ثمرة لذلك في المقام.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت تامةً بحسب الكبرى إلاّ أنّ الظاهر عدم تحقق الصغرى لها كما سوف يتضح ذلك في ضمن النقطة الآتية.

وما قيل من أنّ مفهوم السالبة الكلية في القضية الشرطية قد يكون قضية كلية وذلك كما إذا افترضنا أنّ المعلّق على الشرط هو الجامع بين المطلق والمقيد والاطلاق المستفاد من قرينة الحكمة يطرأ عليه ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون مفهومها قضية كلية ، فانّ انتفاء الجامع لا يمكن إلاّبانتفاء كلا فرديه المطلق والمقيد معاً ، وعلى الجملة : فإن كان التعليق وارداً على المطلق والعموم فالمفهوم قضية جزئية حيث إنّه نفي العموم لا عموم النفي ، وإن كان التعليق وارداً على الطبيعي الجامع والاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يطرأ عليه فالمفهوم قضية كلية حيث إنّه نفي الجامع وهو لا يكون إلاّبنفي جميع أفراده ، ومن هنا يفترق الحال بين ما كان العموم مستفاداً من اللفظ وما كان مستفاداً من قرينة الحكمة ، فعلى الأوّل التعليق وارد على العموم وعلى الثاني العموم وارد على التعليق.

لا يمكن المساعدة عليه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ المعلّق على الشرط إذا لم يكن هو المطلق والعموم بل كان الطبيعي الجامع فليست القضية في مرتبة التعليق حينئذ قضية سالبة كلية ، لفرض أنّ الكلية المستفادة من قرينة الحكمة تطرأ عليه ، فما أفاده المناطقة من أنّ نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية لا ينتقض بذلك.

٢٣٢

وأمّا ثانياً : فلأنّ المتفاهم العرفي من تلك القضايا الشرطية التي يكون إطلاق الجزاء فيها مدلولاً لقرينة الحكمة هو أنّ التعليق فيها أيضاً وارد على المطلق ، مثلاً المتفاهم عرفاً من مثل قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١) هو ورود التعليق على المطلق لا أنّه في مرتبة سابقة عليه ، والسر في ذلك هو أنّ المعلّق على الشرط في القضية بطبيعة الحال إنّما يكون هو مراد المتكلم ومقصوده حسب فهم العرف ولو كان بضميمة قرينة خارجية كقرينة الحكمة أو نحوها.

فالنتيجة : أنّ فرض ورود الاطلاق على المعلّق وإن كان ممكناً بحسب مقام الثبوت إلاّ أنّه لا يمكن إثباته بدليل.

وأمّا النقطة الثانية : فهي مبنية على نقطة خاطئة وهي أن يكون الدال على كل حكم منحل بانحلال أفراد الطبيعة المحكوم عليها قضية مستقلة في مقام الاثبات والدلالة لتكون هناك قضايا متعددة بعدد أفرادها ، ولكن الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه فانّه فيما إذا كان الدال على جميع هذه الأحكام الثابتة لأفراد هذه الطبيعة قضية واحدة في مقام الاثبات والدلالة ، والمفروض أنّ هذه القضية لا تدل على ثبوت حكم لكل فرد منها بعنوانه واستقلاله ، بل هي تدل على ثبوت حكم الطبيعة السارية إلى أفرادها على تقدير تحقق شرطه ، فاذن بطبيعة الحال يكون مفهومها انتفاء هذا الحكم الساري ، ومن الطبيعي أنّ انتفاءه يتحقق بانتفائه عن بعض أفراده فيكون مساوقاً للقضية الجزئية.

وبكلمة اخرى : أنّ انحلال الحكم وتعدده في القضية بحسب مقام الثبوت

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).

٢٣٣

والواقع لا يجدي في كيفية استفادة المفهوم منها في مقام الاثبات والدلالة على الشكل الذي أفاده قدس‌سره وهو القضية الكلية ، وذلك لأنّ مدلول القضية في مقام الاثبات والدلالة واحد حيث إنّ الشارع في مقام الابراز والجعل فقد أبرز حكماً واحداً ، غاية الأمر أنّ ذلك الحكم الواحد يتعدد بتعدد أفراد متعلقه وينحل بانحلاله ، بل ربّما ينحل إلى أحكام غير متناهية من ناحية عدم تناهي أفراد متعلقه ، ولكن هذا الانحلال إنّما هو في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل والابراز.

وعلى ضوء ذلك فالقضية الشرطية في أمثال هذه الموارد لا تدل إلاّعلى انتفاء الحكم الساري عن الطبيعة كذلك عند انتفاء شرطه ، حيث إنّ منطوقها ثبوت هذا الحكم لها كذلك ، ومن الطبيعي أنّه يتحقق بانتفائه عن

بعض الأفراد ولا يتوقف تحققه على انتفائه عن جميع الأفراد ، ضرورة أنّ النفي المتوجه إلى الحكم الساري المطلق بسريان أفراد متعلقه مساوق للموجبة الجزئية ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السريان والاطلاق مدلولاً وضعياً للفظ أو مدلولاً لقرينة الحكمة ، فانّه على كلا التقديرين يكون المعلّق على الشرط هو الاطلاق والسريان ، وعليه فبطبيعة الحال تدل القضية على انتفائه بانتفاء الشرط ، ومن المعلوم أنّ ذلك مساوق للقضية الجزئية.

ولنأخذ لتوضيح ذلك بعدة أمثلة :

الأوّل كقولنا : إذا لبس زيد لأمة حربه لم يخف أحداً ، فانّه لا إشكال في أنّ المتفاهم العرفي منها هو تحقق الخوف له في الجملة عند انتفاء الشرط وهو مساوق للموجبة الجزئية ، بداهة أنّ مفهومها ليس تحقق الخوف له من كل أحد حتى من الجبناء.

الثاني كقولنا : إذا غضب الأمير لم يحترم أحداً ، فانّه لا يدل على أنّه يحترم

٢٣٤

كل أحد عند انتفاء غضبه ولو كان عدواً له ، بل يدل على ذلك في الجملة وهو مساوق للقضية الجزئية.

الثالث كقولنا : إذا جدّ زيد في درسه فلا يفوقه أحد ، فانّ مفهومه عرفاً هو أنّه إذا لم يجد في درسه فسوف يفوقه أحد ، لا أنّ مفهومه هو أنّه إذا لم يجد في درسه يفوقه كل أحد ، وعليه فلا يكون مفهوم قولهم عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء » إلاّثبوت النجاسة له في الجملة بملاقاة النجس عند انتفاء الكرية لا ثبوت النجاسة له بملاقاة كل نجس.

فالنتيجة : أنّ المتفاهم العرفي من الأمثلة التي ذكرناها وما شاكلها من القضايا الشرطية هو أنّ مفهومها قضية جزئية لا قضية كلية (١) ولا فرق في

__________________

(١) وما قيل من أنّه فرق بين الأمثلة المتقدمة وبين قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماءقدر » إلخ ببيان أنّ في تلك الأمثلة قد طرأ التعليق على المطلق دون قولهم عليهم‌السلام والسبب فيه هو أنّ ثبوت الاطلاق في تلك الأمثلة إنّما هو لقرينة عرفية خاصة وليس ثابتاً بمجرد مقدمات الحكمة حيث لا يحتمل عرفاً اختصاص كلمة أحد المذكورة فيها في طرف الجزاء بخصوص العادي من الناس بحيث لو أراد القائل بكلامه السابق : أنّ زيداً إذا لبس لأمة حربه لم يخف أحداً ، الجبناء من الناس لما كان كلامه كلاماً عرفياً ، وكذا لو أراد من قوله : إنّ زيداً إذا جدّ في درسه لم يسبقه أحد ، خصوص الأغبياء منهم ، أو أراد من أحداً في قوله : إذا غضب الأمير لم يحترم أحداً ، خصوص الأهل والأقرباء منه ، فاذا كان الاطلاق مدلولاً لقرينة خاصة عرفية كان التعليق وارداً عليه ، وهذا بخلاف الاطلاق في قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماء » إلخ فانّه حيث يكون مدلولاً لقرينة الحكمة فهو وارد على التعليق دون العكس ، وعليه فيكون مفهومه موجبة كلية ، حيث إنّ المعلّق على الشرط على هذا هو الطبيعي الجامع فنفيه

٢٣٥

هذه الاستفادة العرفية بين أن يكون العموم في طرف الجزاء استغراقياً أو مجموعياً ، فكما أنّ نفي العموم المجموعي يلائم مع قضية موجبة جزئية فكذلك نفي العموم الاستغراقي.

__________________

لا يمكن إلاّبنفي جميع أفراده.

وما قيل من الفرق مدفوع بأنّ حال قولهم عليهم‌السلام حال الأمثلة المذكورة فكما أنّ تخصيص الأحد فيها بطائفة خاصة مستهجن عرفاً فكذلك تخصيص الشيء فيه بخصوص المتنجس.

وإن شئت قلت : إنّ تقييد المطلق بطائفة خاصة منه وإن لم يكن مستهجناً عرفاً في نفسه ، ولكن في المقام نلاحظ الاستهجان في تخصيص الشيء في قولهم ( عليهم‌السلام ) : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء » بالمتنجس ، وعلى هذا فلا محالة يكون المراد منه المطلق الشامل للمتنجس أيضاً ، وعليه فبطبيعة الحال يكون مفهومه موجبةً جزئية.

وبكلمة اخرى : أنّ المراد من الشيء في هذه الرواية لا يخلو من أحد امور ثلاثة : الأوّل : أن يكون المراد منه خصوص الأعيان النجسة. الثاني : أن يكون المراد منه خصوص الأعيان المتنجسة. الثالث : أن يكون الأعم منهما. فعلى الاحتمال الأوّل الرواية ساكتة عن حكم ملاقاة المتنجس منطوقاً ومفهوماً ، وإنّما هي ناظرة إلى بيان حكم ملاقاة عين النجس كذلك ، وعلى الاحتمال الثاني عكس ذلك تماماً. ولكن لا يمكن الأخذ بكلا الاحتمالين جزماً ، أمّا الاحتمال الأوّل فبملاحظة أنّ التقييد بحاجة إلى قرينة تدل عليه وحيث إنّه لا قرينة في المقام على ذلك مع كون المولى في مقام البيان فقرينة الحكمة تعيّن الاطلاق. وأمّا الاحتمال الثاني فهو ساقط في نفسه ، لوضوح أنّه لا يمكن أن تكون الرواية متجهةً منطوقاً ومفهوماً إلى بيان حكم ملاقاة المتنجس خاصة ، وقد تقدم أنّ الرواية على هذا تخرج عن الكلام العرفي. فاذن يتعيّن الاحتمال الثالث.

٢٣٦

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر مما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة خطؤها.

أمّا أوّلاً : فلما تقدم بشكل موسع في ضمن بحث الحروف أنّ ما اشتهر في الألسنة من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلةً والمعنى الاسمي استقلالاً لا أصل له ، وقد ذكرنا هناك أنّه لا فرق بينهما في هذه النقطة أبداً.

وأمّا ثانياً : فعلى فرض تسليم ذلك إلاّ أنّه لا نتيجة له فيما نحن فيه ، لما عرفت من عدم الفرق بين كون العموم في طرف الجزاء مجموعياً أو استغراقياً في كيفية استفادة المفهوم عرفاً من القضية الشرطية.

وأمّا النقطة الرابعة : فهي تامة بالاضافة إلى الأعيان النجسة وخاطئة بالاضافة إلى الأعيان المتنجسة ، فلنا دعويان : الاولى : أنّ الثمرة لا تظهر في الأعيان النجسة بين كون مفهوم قولهم عليهم‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء » (١) موجبة كلية أو جزئية. الثانية : أنّها تظهر في الأعيان المتنجسة بين الأمرين.

أمّا الدعوى الاولى : فلأ نّه إذا ثبت انفعال الماء القليل بملاقاة عين النجس في الجملة ثبت انفعاله بملاقاة جميع أنواعها ، لعدم القول بالفصل بينهما جزماً ، وأنّ التفكيك بينها في ذلك خلاف المرتكز العرفي ، ومن الطبيعي أنّ هذا الارتكاز قرينة عرفية على ذلك. فاذن لا تظهر ثمرة بين وجهة نظرنا في المقام ووجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّه بعدما ثبت من الخارج تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس بناءً على ضوء نظرية

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).

٢٣٧

شيخنا الاستاذ قدس‌سره من استفادة العموم في جانب المفهوم. وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم استفادة العموم في جانب المفهوم وأ نّه موجبة جزئية فلا نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته ، وذلك لأنّ القدر المتيقن من المفهوم عندئذ هو تنجسه بملاقاة عين النجس فلا يدل على أزيد من ذلك ، والقول بعدم الفصل بين المتنجس والأعيان النجسة غير ثابت ، والتفكيك بينهما بالحكم بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة الأوّل وانفعاله بملاقاة الثاني ليس على خلاف الارتكاز العرفي ليتمسك به.

ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام من أنّه إذا دلّ دليل خارجي على تنجيس المتنجس لما لاقاه كفى ذلك في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس فلا حاجة حينئذ إلى التمسك بالمفهوم ، وإن لم يدل دليل من الخارج على ذلك فالمتنجس غير داخل في المنطوق فيختص المنطوق بالأعيان النجسة ، وعليه فلا يترتب على القول بكون المفهوم موجبةً كليةً الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته ، وجه الظهور : هو أنّه لو كان للدليل الخارجي إطلاق أو عموم فالأمر كما أفاده ( قدس الله سرّه ) حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو تنجيس المتنجس لما لاقاه مطلقاً ، أي سواء أكان ماءً أو كان غيره. وأمّا إذا افترضنا أنّه لا يدل إلاّعلى تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من دون أن يكون له إطلاق أو عموم ، فعندئذٍ يدخل المتنجس في موضوع ما يكون قابلاً لتنجيس ملاقيه ، فتدل الرواية بحسب المنطوق على عدم انفعال الكر بملاقاته.

وعلى هذا فلو قلنا بكون مفهوم الرواية موجبة كلية لدلت على انفعال الماء

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩.

٢٣٨

القليل بملاقاة المتنجس كما تدل على انفعاله بملاقاة الأعيان النجسة ، وإلاّ فهي ساكتة عن حكم ملاقاته له فلا بدّ فيه من التماس دليل آخر ، والقول بعدم الفصل بين أفراد ملاقي المتنجس غير ثابت ليتمسك به.

وإن شئت قلت : إنّ ما دلّ على تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من غير دلالته على تنجيس الماء القليل بملاقاته بالخصوص أو العموم لا يمكن التعدي عن مورده المتيقن إلى غيره من الموارد بعدم القول بالفصل ، بدعوى أنّه إذا ثبت تنجيس المتنجس لملاقيه في موردٍ ثبت في جميع الموارد من دون فرق بين أقسام ملاقيه في ذلك ، كما أنّه لم يثبت القول بعدم الفصل بين أنواع المتنجس وأفراده ، والثابت إنّما هو القول بعدم الفصل بين أنواع النجس فحسب.

وعلى هذا الضوء تترتب ثمرة مهمة على هذا البحث ـ أي البحث عن كون مفهوم القضية الكلية كالرواية المتقدمة قضية كلية أو جزئية ـ حيث إنّه على الأوّل تدل الرواية على انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس دون الثاني.

[ تعدد الشرط واتحاد الجزاء ]

الرابع : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قضيتي : إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر ، فبناءً على ضوء دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاخرى ، وعليه فيقع الكلام في طريق علاج هذه المعارضة وقد ذكر لذلك طرق أربعة :

الأوّل : أن يلتزم بعدم دلالتهما على المفهوم ، نظراً إلى أنّ دلالة القضية

٢٣٩

الشرطية على المفهوم تقوم على أساس دلالتها على العلية المنحصرة ، وحيث إنّ العلة في مفروض المقام لم تكن منحصرةً ، فلا مقتضي لدلالتها على المفهوم أصلاً. وقد اختار هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بدعوى أنّه مما يساعد عليه العرف.

الثاني : أن يلتزم في هذه الموارد أنّ الشرط هو عنوان أحدهما الذي هو نتيجة العطف بكلمة « أو » وعليه فان كان لهما جامع ذاتي فذلك الجامع الذاتي هو الشرط في الحقيقة ، وإن لم يكن لهما جامع كذلك فالجامع الانتزاعي هو الشرط فيها ، ونتيجة ذلك : هي ترتب وجوب القصر على خفاء أحدهما وإن لم يخف الآخر.

الثالث : أن يلتزم بأنّ الشرط هو المركب من الأمرين الذي هو نتيجة العطف بكلمة « واو » لا كل واحد منهما مستقلاً ، وعلى هذا فاذا خفيا معاً وجب القصر وإلاّ فلا وإن فرض خفاء أحدهما.

الرابع : أن يلتزم بتقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر من دون تصرف في شيء من المنطوقين. فهذه هي الوجوه المتصورة في هذه الموارد.

نعم ، ذكر المحقق النائيني قدس‌سره (٢) وجهاً خامساً وهو أن يكون كل منهما شرطاً مستقلاً ثمّ قال : وعليه يترتب لزوم تقييد إطلاق كل من الشرطين المذكورين في القضيتين باثبات العدل له فيكون وجود أحدهما كافياً في ثبوت الجزاء.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩.

٢٤٠